في يناير من العام الحالي ذهبت إلى أسوان مع والدتي وابنتي الكبرى. لفت نظري أثناء تجولنا بالمدينة كيف أن أحجار الأرصفة وجذوع الأشجار مطلية بطريقة جميلة باللونين الذهبي والأسود، الخطوط الموجودة في منتصف الطرق جديدة، واستوقفني أيضا مدى قلة القمامة الموجودة في الشوارع. بل أن الشوارع نفسها بدت خالية من السيارات، وقلت لنفسي كم هي مدينة جميلة ومعتنى بها جيدا.
دخلت متجرا لشراء بعض البطاقات البريدية وأثناء خروجي، لاحظت جلبة على الجانب الآخر من الطريق. كان موكب مكون من حوالي 15 سيارة قد توقف أمام مدرسة وخرجت سيدة أنيقة للغاية وأحاط بها جموع من تلاميذ المدارس يهللون مرحبين ويلوحون بالأعلام المصرية. تخلل المشهد وميض الكاميرات ودوران طائرة هليكوبتر في الأعلى. هل دخلت بدون أن أدري إلى مشهد من أحد الأفلام؟ كلا، في الواقع لقد كانت سوزان مبارك تفتتح مدرسة جديدة.
قبل يناير لم أعد أدري عدد المرات التي حدث فيها أثناء قيادتي للدراجة عبر أنحاء القاهرة أن تم إيقاف المرور وحدث تكدس مروري هائل وتوترت الأعصاب عند إخلاء الطرق، ومرت دراجات الشرطة مسرعة وانطلق موكب مشؤوم من سيارات المرسيدس السوداء التي تحمل كبار الشخصيات الحكومية مسرعا على الطريق الذي خلا كالوميض من التكدس المروري الذي ابتلينا به نحن البسطاء. ظننت أن هذا الأسلوب ربما يكون قد اختفى مع النظام الجديد ولكن هذا الصباح كانت عربات نقل القمامة وسيارات الشرطة واللوريات تنطلق في شارعي، تزيل المخلفات والسيارات القديمة المحطمة وتكنس الشارع إلى أن أصبح لامعا وتهذب فروع الأشجار المنخفضة وتجمل الشارع بشكل عام. كان هناك مسؤول حكومي بارز سيمر بسيارته في ذلك الطريق في وقت لاحق وتم إصدار الأمر بأن كل شيء يجب أن يبدو جميلا من نافذة سيارته عند مروره.
بالنسبة لسوزان مبارك وأولئك الذين يجلسون في خلفية تلك السيارات الفخمة المنطلقة، لم يكن هناك وجود للاختناقات المرورية أو القمامة أو حواف الطرق المهملة. لقد كانت حياتهم مكونة من أناس متملقين، يقولون لهم ما يريدون سماعه، لا يعترضون إطلاقا على ما يقولون، لا يخبرونهم بأي أخبار سيئة ولا بالحقيقة، كانوا محاطين دائما بالحشود المهللة والكاميرات والأعلام الملوحة والوجوه المبتسمة. كانوا يعيشون في فقاعة.
أحد الأشياء الخطرة في كون المرء دبلوماسيا هو الإغراء بأن تعيش في فقاعة مشابهة. فقاعة يسكنها من أنت على اتصال بهم من شخصيات عالية المستوى أو أشخاص أنيقين ذوي تعليم غربي. فقاعة من الزملاء والأصدقاء الذين يفكرون بنفس الطريقة، ويرون العالم بنفس الطريقة، وينتقدون نفس الأشياء: يتم تعزيز أسلوب تفكيرنا بشكل متبادل من خلال سماع نفس الشيء ممن حولنا حتى تنعدم عندنا رؤية الأشياء إلا وفق نظرتنا فقط: تماما مثل مبارك وأسرته. التحدي الذي نواجهه كل يوم نحن الدبلوماسيون هو الخروج من ذلك النطاق المريح، هو أن نتحدى أنفسنا للقيام بالأشياء بشكل مختلف، أن نجد أشخاص آخرين نتحدث إليهم، معارف آخرين نعلم منهم الأمور، وجهات نظر مختلفة ندرسها.
أنا مشجع كبير لرياضة الرجبي. أتذكر مشاهدتي لإحدى أعظم مبارايات الرجبي في التاريخ، المبارة النهائية المثيرة في كأس العالم للرجبي في عام 1995 بين جنوب أفريقيا ونيوزيلاندا. لقد حقق فريق جنوب أفريقيا إنجازا رائعا بحق في ذلك اليوم عندما فاق التوقعات وهزم الفريق النيوزيلاندي ليحصل على الكأس. كان الظهير الخلفي في الفريق الجنوب أفريقي هو جوست فان دي ويستهويزن. لقد تم مؤخرا تشخيص هذا الرجل على أنه مصاب بداء الأعصاب الحركية الطرفية. شاهدت مقابلة معه الليلة الماضية. عندما سُئل عن شعوره بالنسبة لمرضه، واجه بشجاعة فكرة تعرضه للموت وحالته الجسدية المتدهورة وقال ببساطة quot;لا أحد ولا شيء يستطيع إطلاقا أن يأخذ مني ذلك الشعور (بتحقيق ذلك النصر)quot;. أثناء مشاهدتي للمبارة النهائية لكأس العالم للرجبي هذا الصباح، مر بخاطري كيف أن القليلين جدا منا هم الذين تتاح لهم فرصة إنجاز شيء يبقى في الذاكرة؛ وكيف أن قليلين منا فقط، عندما ينظرون إلى ما مضى من حياتهم، يستطيعون الإشارة إلى إنجاز عظيم حتى ولو واحد فقط. لقد قامت شعوب مصر وتونس وليبيا، عندما أطاحت بحكوماتها التي تخدم مصالحها الذاتية والتي انعزلت بداخل فقاعتها المعززة للذات، بتحقيق إنجاز جدير حقا بالذكر والإشادة.
يمثل هذا الإنجاز تحديا ضخما للحكومات الجديدة بالمنطقة. ولكن يتحتم على الحكومات أن تتجاوب مع ذلك التحدي بالخروج من نطاق راحتها ومغادرة فقاعاتها وأداء الأشياء بشكل مختلف. يعني ذلك الإنصات للأصوات المختلفة، ويعني قبول كون الديمقراطية صعبة، وأنها كثيرا ما تعني الاختلاف والموافقة على الاختلاف بشكل سلمي وهادئ. سوف يكون هذا صعبا وسوف يتطلب من الحكومات الجديدة تطوير أساليب جديدة للحكم، أساليب جديدة لإيجاد حلول وطنية معتدلة. ولكن الخروج من الفقاعات أمر أساسي لإعادة بناء ثقة الشعب في مؤسسات الدولة وإعادة وضع العقد الاجتماعي لكي يؤدي الإنجاز الذي تحقق بالتخلص من نير الديكتاتورية إلى مستقبل أفضل يستحق التضحيات المبذولة.

نائب السفير البريطاني في مصر