لا نعرف من ورث من الأخر سياسية العقاب الجماعي، إسرائيل أم الولايات المتحدة، حيث قررت الأخيرة حرمان أطفال العالم من البرامج التربوية والتعليمية، التي تديرها منظمة اليونسكو، وذلك لقبول المنظمة الدولية عضوية فلسطين، وبغض النظر عن المغزى السياسي لقبول عضوية فلسطين الكاملة في تلك المنظمة، والذي كشف عري الموقف الأميركي من فكرة الدولة الفلسطينية بحد ذاتها، إلا أن إعلان الخارجية الأميركية وقف تمويل المنظمة، كان بمثابة الصدمة حيث لم يكن من المتوقع أن تنفذ الإدارة الأميركية تهديداتها بهذا الشأن، وقرار من هذا النوع ليس فقط يفتقد إلى الحكمة السياسية، بل يندرج في إطار سياسية العقاب الجماعي للأمم، ومن شأن ذلك أن يظهر الولايات المتحدة بمظهر من فقد التوازن، فهذه ليست غزة ولا الضفة الغربية، بل منظمة دولية ترعى شؤون مئات الملايين من أطفال العالم الذين يتلقون برامج تعليمية وثقافية تديرها تلك المنظمة الإنسانية، ومن شأن فقدان 22%من تمويلها وهي الحصة الأميركية من التمويل، من شأنه أن يعطل نسبة موازية من برامجها، علاوة عن الإضرار بهيبة تلك المنظمة الدولية، وما يتبع ذلك من إضرار بهيبة جميع الهيئات الدوليةquot;الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجلس الأمنquot;، فهنا المسألة أكبر من الفيتو، بل تتعلق بمدى استقلالية وشفافية ودور الأسرة الدولية، وهذا يشكل تهديدا صريحا لمنظومة العلاقات الدولية التي نشأت بنشأة الأمم المتحدة، فإذا كانت الدولة التي تعتبر نفسها quot;راعية للسلام وحقوق الإنسانquot;، تعمل على تدمير منظمة إنسانية بتلك الصورة، ولصالح الرؤية الإسرائيلية للصراع العربي الإسرائيلي، وتضع رغبة إسرائيل فوق إرادة الشعوب والأمم، وفوق مصلحة واحتياجات أطفال العالم، فلا مصداقية اليوم لأي خطاب يتعلق بالسلام والأمن العالميين، ومن حق الشعوب أن تسأل ماذا جنت لأجل هذا العقاب، وهذا ما لا ينفع مع الأسف الذي أبدته الإدارة الأميركية، حيث قالت الناطقة بلسان الخارجية الأميركية فيكتوريا نولاندquot; نأسف لقرار الدول صاحبة العضوية في منظمة اليونيسكو التي صوتت على قرار الاعتراف بعضوية فلسطين، ونعتبر أنه قرار متسرّع ويهدد هدفنا المشترك بالوصول إلى سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط.quot;

ولكن هل قطع المساعدات والتمويل عن منظمة دولية، طابعا إنساني فيه أدنى حرص على السلام، والقرار الأميركي هو بمثابة إلغاء لتلك المنظمة من اعتبارات السياسية الأميركية، والسؤال إذا أقدمت الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار شبيه، هل سيكون قرار الإدارة الأميركية أيضا إلغاء تلك المنظمة، القائمة على إدارة شؤون العالم والأمم، واستبدال ذلك بالإدارة الأميركية، وهذا ما لا يستقيم معه قول نولاند quot;الولايات المتحدة... لا تزال على التزامها القوي بالمشاركة النشطة المتعددة الجوانب في نظام الأمم المتحدة. غير أن العضوية الفلسطينية كدولة في اليونسكو تنشط قيودا تشريعية قائمة منذ فترة طويلة ستجبر الولايات المتحدة على الإحجام عن تقديم المساهمات لليونسكوquot;، والمقصود بالقيود التشريعية القديمة هو قانون سنه الكونغرس الأميركي في العام 1990، ويقضي بوقف تمويل أية منظمة تابعة للأمم المتحدة، توافق على قبول منظمة التحرير الفلسطينية عضوا فيها، وهذا المنطق يضع القوانين الأميركية فوق القوانين والتشريعات الدولية، وعندما تكون في حالة تعارض مع رغبة المجتمع الدولي، يقول المنطق الأميركي أن على المجتمع الدولي أن يغير جلدته، وليس على الولايات المتحدة أن تلغي بعض قوانينها وتشريعاتها البائدة، التي لا تستقيم ومتطلبات السلام الذي تدعوا له، ومرة أخرى وفق هذا المنطق، تفقد الإدارة الأميركية مصداقيتها فيما يتعلق بخطاب السلام، وإلا ما الذي يدعوها للاحتفاظ بقوانين تعيق تلك العملية، إذا كانت لا تكلف خاطرها تعديل قانون داخلي أساسه توازنات داخلية، وتفضل على تلك الخطوة تدمير منظمة إنسانية وإرسال مصيرها إلى المجهول، تلك المنظمة التي تعني بشؤون التراث والتربية والتعليم، والقضايا الكونية، التي باتت تشكل تحديا للبشرية، وهي أهم بكثير من التحديات التي تواجه السياسية الأميركية وحليفتها إسرائيل، وهنا لا نتحدث من وجهة نظر فلسطينية بل من وجهة نظر أممية، رغم أن الرغبة الفلسطينية التي لبتها تلك المنظمة لا تتعارض ومقتضيات السلم والأمن العالميين، بل حرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه الوطنية المشروعة، وسياسة العقاب الجماعي التي تمارسها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، هما الذين يهددان السلام، والتذرع بأن ذلك يعيق التوصل إلى اتفاق بالتفاوض أمر لا أساس له من الصحة، وحتى مقولة الحل المتفاوض عليه مقولة تحمل في طياتها نوايا واضحة وصريحة لهضم والانتقاص من الحقوق الفلسطينية، والرفض الأميركي الأخير يؤكد صحة تلك الشكوك في إمكانية ضمان الحل المتفاوض عليه، من ضمان حقوق الفلسطينيين، وإذا كان من أمر سيقوض عودة المفاوضات، فهو هذا المنطق الأميركي الإسرائيلي، القائم على ثنائية العربة أمام الحصان أم الحصان أمام العربة.