يتهرب المثقفون العرب من مسؤوليتهم في رفع مستوى ثقافة الإنسان العربي.. بإستعمال لغة ومصطلحات متعالية لا يستطيع إستيعابها الإنسان البسيط.. وبفلسفة فكرية تتحايل على المعنى المقصود والمباشر بحيث تمنع القارىء البسيط من تكملة القراءة لأنها تخلق حاجزا نفسيا مباشرا بينه وبين ذلك المثقف. هدف المثقف في ذلك عدم إغضاب القارىء أو جرح مشاعر الراي العام حتى وإن كان في ذلك ضرورة حتمية هدفها مصلحة الإنسان والمجتمع.. مساهمين بذلك بقدر وافر من جهل وتجهيل الإنسان العربي... الأسبوع الماضي لفت نظري مقال لأحد المثقفين الذين أكن لهم كل الإحترام.. يؤكد فيه حاجة المجتمعات العربية بعد طول فترة الركود والإستبداد إلى فترة زمينة كي تعيد بناء إستقرارها من جديد، وهو محق في ذلك.. ويعتقد بأن ميزة الحرية في هذا المناخ الجديد ستساعد على إنتعاش التعبيرات والطموحات التي كانت قد قمعت سابقا خلال فترة الإستبداد!

أولا أنا أعتقد أن حقبة الإستبداد تلك لم تبدأ مع الأنظمة القمعية منذ 50 أو 60 عاما.. بل إن حقبة هذا الإستبداد بدأت بالإستبداد الديني حين نجح التقليديون في قتل فكر المعتزلة وهو الفكر الذي جعل من العقل حكما ومرجعا في أمور الدين والعقيدة..ورسّخ آنذاك لمبدأ حرية الإنسان في إختيار أفعاله.. وهو الفكر الذي نما وتطور وبلغ الذروة في عهد المأمون 188-218.. الذي شجع على ترجمة العديد من الكتب الفلسفية اليونانية بحيث أثرت الفكر الإسلامي النقدي وساهمت آنذاك بقسط كبير في النمو الحضاري للإسلام مستعملة علم الكلام الفلسفي الذي تكفّل بالرد الفلسفي على أبناء البلدان المفتوحة اللذين استعملوا العقل والفلسفة والمنطق في جدالهم مع المسلمين المبشرين..مما حدا بمفكري المعتزلة أن يتحدوهم بنفس الطريقة.. وأصبح هذا الفكر هو المذهب الرسمي للدولة.. وكانوا أبرز طبقة مثقفة عرفها الإسلام آنذاك.. كان منهم الأدباء والشعراء والنقّاد
ولكن إنتصار التقليديين الذين إعتبروا أن لا فلسفة ولا منطق مع النص أعاد التفسير الفلسفي للنص إلى نقطة الصفر.. وتم قتل المعتزلة عن بكرة أبيهم في عهد المتوكل..

ويعتبر الإمام أحمد إبن حنبل أول من حرّم علم الكلام.. ونهى عن تأليف الكتب على إعتبار انها بدعة وكل بدعة ضلالة.. لأنها لم تكن موجودة عصر البعثة والصحابة.
وأصبح مذهبه هذا أكثر المذاهب الأخرى تشددا.. ويعتبر أول من زرع شجرة السلفية مع أفكار إبن تيمية التي نعاني من ظلامها الآن..

هذا الفكر الذي أسس لتحريم الخروج على الحاكم مهما بلغ فسادة وإفسادة إضافة إلى الجهاد ضده في حال عدم إلتزامه بتطبيق الشريعة.. وأسس لمنهج الجهاد حتى ضد المسلمين إن تطلب الأمر وتمادوا في ضلالهم..

في ظل هذا التفكير العقيم والذي نراه ونسمعه في القرن الحادي والعشرين.. والذي يحاول التسلط والوصول إلى السلطه بأي ثمن.. فأين وكيف ستنتعش الحرية الفكرية التي ستعتق الشعوب العربية من هذا الفكر الإستبدادي.. حتى وإن نجحت هذه الشعوب في الإطاحة بالأنظمة الإستبدادية؟

في ظل هذا الفكر الذي ترعرع خلال المئات من السنين..خلالها حمت الأنظمة العربية هذا الفكر.. لأنه حماها بالمقابل من غضبة شعبية بدأت تستنفر في قلوب الشعوب خاصة بعد ان ساهم الإعلام العالمي بتوعية الإنسان في كل مكان.. وبعد أن بدأ الإنسان العربي يراقب كيف تنمو الدول الديمقراطية بينما هو يرتع في مربع الفقر والفساد والظلم في ذات الوقت الذي يرى فية رؤساؤه وملوكه ينعمون بوافر العز والسلطة والمال..

الأنظمة الإستبدادية ليست بأقل خطرا من الإستبداد الديني وكلاهما قضى على مكانة العقل العربي وحل محله خوف رهيب مزدوج من السلطة ومن الدين كما فسره الفقهاء الظلاميون.. من خلال مناهج تعليمية إرتبطت بمتناقضات فقهية لا تمت للعصر ولا تمت لروح الدين وبهذا ضمنوا تقييد العقل العربي ليبقى الإنسان العربي تائها في البحث عن لقمة عيش.. ومؤثرا السلامة.. ودفنت الحرية...

يقول الكاتب أننا quot;quot; نستطيع الآن وبعد الثورات العربية أن نحول إنقسامات القبلية والطائفية إلى مرتبة التنوع الإيجابي لإثراء المجتمع وتحويله إلى مصدر قوة عبر سيرورة اجتماعية وسياسية واقتصادية طويلة الامد وعميقة التأثير quot;quot;!
في ظل تنامي صعود الإسلاميين فالسيرورة الإجتماعية.. هي التالي:

ينقسم المجتمع الإسلامي إلى مجتمع ذكوري متسلط تنتابه كل الأمراض النفسية والجنسية من جراء الكبت والبطالة ومجتمع نسائي مهمش يحدد دور المرأة في عملية إنجاب وبقائها داخل جدران عالية سواء برضاها أم بدونه، هذا المجتمع وبناء على الشرع يؤكد على حق الذكر المطلق في تأديبها وضربها ناهيك عن حقه في تعدد الزوجات وملك اليمين.
ومجتمع غير مؤمن وغير إسلامي لا مكان فية لغير المسلم ولا مساواة في الوظيفة.. ولا عدل فما بالك بالمواطنة التي تختفي مع إختفاء تساوي الحقوق.

هل مثل هذا المجتمع قادر على إثراء المجتمع وإحداث التغيير لمصلحة الفرد الإنسان والمجتمع ؟؟ هل في مثل هذا المجتمع سيكون التنوع إيجابيا؟
السيرورة السياسية.. كلنا لا زال يذكر كيف وقف الأزهر والإخوان والسلفيون مع النظام في بداية الإنتفاضة المصرية.. برغم أنه لم يكن لأي منهم أي فضل فيها ولكنهم نجحوا في إستغلالها لمصلحتهم فيما بعد.. وكلنا يعرف بأن التقية جزء لا يجزأ من الفكر الإسلامي.. وعليه كيف نضمن إستقرارا سياسيا بينما يحرم الخروج عن الحاكم.. والجهاد ضده إن لزم الأمر؟

وهو ما ينقلنا إلى السيرورة الإقتصادية التي لا تزدهر إلا بالإستقرار السياسي!
أم سنعود إلى العمل بالنظام الإقتصادي الذي كان معمولا به في أوائل الدعوة.. وهل ضمن ذلك النظام العدل في التوزيع؟
إن المتتبع في كتب التراث يجد أن الحاكم أو الخليفة كان من حقه أخذ الربع..إضافة إلى ما يصطفيه.. أيضا بأن أحد أسباب قتل الخليفه عثمان بن عفّان كان توزيع الغنائم على أقاربه!!

ولا أستبعد بأن جذور الفساد وسرقة الثروات الوطنية في المنطقة العربية تستند إلى مثل هذا التفسير بحيث تشاطرت على قطع يد السارق الجائع بينما ملأت أرصدتها في البنوك الخارجية!
فهل هذا هو النظام الإقتصادي الذي يأمل الإسلاميون في تطبيقة.. أم هي التنمية بالإيمان!

من المستحيل تحقيق عملية الصهر الوطني بين مختلف فئات المجتمع بدون عملية صياغة كاملة لأحداث التاريخ الإسلامي تتقي فيها الموضوعية.. والصدق والنقد الذاتي وكتابة الأحداث كما هي بإيجابياتها وسلبياتها ليستطيع القارىء او الدارس لهذا التاريخ إستنباط الحقيقة التي يراها من خلال الأحداث وليس مجرد تلقينه إيجابياتها وحرمانه من التفكير الحر.. والتفكير النقدي الواعي من خلال برنامج متكامل لإعادة الإعتبار للعقل والتفكير الحر والعقلاني للدين ولجميع الأديان وهو الأسلوب الذي حرر الدول الأوروبية في السابق..

عملية الصهر الوطني لا يمكن أن تتم بدون تجذير الإحساس بالعدالة والمساواة والحرية.. على مدى سنوات وأتمنى ان لا تكون أجيال لأن الوقت ليس في صالح الإنسان العربي.. إثراؤه بقيم الفلسفة الإنسانية التي جعلت من الإنسان قيمة القيم و لا تتعارض مع النص.. quot; ولقد كرمنا بني آدم quot;..

الرفض المطلق لأي إتجاه يؤسس لسلطة الدين على النصوص.. بل الأخذ بكل ما في مصلحة الإنسان بما يتوافق مع روح الدين لإعادة صياغة الذهنية الإسلامية... من خلال عملية تعليمية منهجية تستند إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.. وتدريس الإتفاقيات الدولية التي تتناسب مع العصر في رفع قيمة المرأة.. والإعتراف بحقوق الأقليات.. وإلغاء جميع القوانين التي تتعارض مع الحقوق الإنسانية كما في فقه الذمه وفقه النساء اللذين لا زالا يدرسان في الأزهر إضافة إلى ان الطالب الأزهري وفي القرن الحادي والعشرين يدرس عن السرموزة (لا أعرف ما هي) حتى يومنا هذا.

إن تشدق الرؤساء الجدد بعد الإنتفاضات العربية بتأكيدهم على تطبيق الشريعة سيواصل حالة الإنحطاط التي يعاني منها العالم العربي كله.. وسيلغي أي قدرة ذهنية للإنسان العربي.. هل تطبيق الشريعة التي يتشدق بها ثوار ليبيا وتونس سيحل المشاكل الإقتصادية التي يواجهها الإنسان العربي.. هل تطبيق الشريعة سيحمي المجتمع.. كما حمى أفغانستان وباكستان وطهران؟؟

لقد حما كمال الدين أتاتورك المجتمع التركي حين أخرج التشريع الديني من كل المجالات.. وحرم تعدد الزوجات.. وأعطى حق الطلاق للمرأة والرجل.. وساوى بين الأبناء والبنات في الميراث..

نعم تطبيق الشريعة يتعارض مع روح الدين وبدل الدخول في متاهات تفسيرات فقهية من بشر مثلنا لإستنباط قوانين بشرية جديدة نستطيع التعايش فيها مع العالم من حولنا مسألة عسيرة بل ومستحيلة الحل الوحيد الآني عملية جراحية تامة لفصل الدين عن الدولة...

باحثة وناشطة في حقوق الإنسان