مع حلول مناسبة عيد الميلاد يقفز إلى الواجهة همّ من بين الهموم المتراكمة لدينا نحن المسلمين. ومع أنه هذا الهمّ مسألة مكررة ولا تحتاج لهذا الزخم إلا أن الضرورة العصبية تستوجبه. هل تهنئة المسيحيين بهذا العيد حلال أم حرام؟ وقد تناقل الناس عبر الانترنت فيديوهات أحدها لرجل دين هندي في بريطانيا والآخر لشاب أميركي من أصل لبناني يكفران من يهنيء، quot;فالتهنئة أعظم إثماً عند الله من شرب الخمر وقتل النفس والزنا لأنك بهذا توافق المسيحي على عقيدته الشركية الخاطئة..quot; (فتوى إبن القيم).

في الإسلام الزواج من المسيحية واليهودية حلال، وأعتقد أنه أكثر quot;إثماًquot; بموافقة الأخر على عقيدته من quot;التهنئة بعيدquot;. فالزوجة المسيحية تأمنها على بيتك وأولادك وحياتك. ولها الحق بممارسة دينها وإظهاره أمامك وأمام الأولاد. وقال العلماء بأنه يجب على الزوج أن يوصلها إلى دار عبادتها (الكنيسة) كل أحد لتمارس واجباتها الدينية.

وفي سيرة الإسلام أن الرسول عليه الصلاة والسلام سمح لنصارى نجران بالصلاة في مسجده. أي أن يمارس هؤلاء quot;شركهمquot; داخل دار عبادة المسلمين. وبما أن هذا الحديث لا يناسب الذوق العقائدي لمجموعة من المسلمين فقد حاول فريق منهم تضعيفه، ورأى فريق آخر بأنه سياسة من الرسول عليه السلام لتأليف قلوبهم. ولم ينتبهوا أبداً إلى أن quot;التهنئة الطيبةquot; هي تأليف للقلوب ومدخلاً لها وليست إفساداً للعقائد.

وفي تاريخ الإسلام أن عددا من الخلفاء جلسوا في أعياد أهل الكتاب وشاركوا فيها (كتاب الخراج لأبو يوسف)، وفي عهد الصحابة والتابعين كان يسمح ببناء الكنائس. ففي عهد الرشيد هدم والي مصر علي بن سليمان كل الكنائس المحدثة، ثم جاء بعده والٍ آخر سمح للنصارى بنيان الكنائس التي هدمت. فبنيت كلها بمشورة الليث بن سعد وإبن لهيعة وقالا: هو من عمارة البلاد، واحتجّا بأن عامة الكنائس التي بمصر لم تبن إلا في الإسلام في زمن الصحابة والتابعين (تاريخ مصر للكندي). إذن فالصحابة والتابعين سمحوا بإنشاء الكنائس ولم يعترضوا على أماكن سيمارس بها quot;الشركquot; وستعين النصارى على quot;باطلهمquot;. فهل المبادرة بالتهنئة بعيد الميلاد هي أعظم من السماح بإنشاء مكان يقام فيه هذا العيد وشعائره؟

الفتاوى التي حرّمت التهنئة بأعياد أهل الكتاب عامةً والمسيحيين خاصةً أسباب تشددها متعددة. منها أن هذه الفتوى إبنة نسيج اجتماعي ديني من لون واحد لم يعرف التنوع العقائدي الذي يجعله على معرفة مباشرة مع الآخر المختلف، وليس فقط من خلال الكتب والأقاويل وشاشة التلفزيون وكلمة quot;كافرquot;. فالتنوع الديني في المجتمع يجعل المسلم على تماس يومي إجتماعي وإنساني مع كل ما هو مختلف. ومنها أيضاً أن بعض هذه الفتاوى كانت إبنة عصرها تأثرت به وبظروفه السياسية. فالفقهاء الذين شدّدوا وركزوا عليها هم فقهاء فترة الحروب الصليبية والغزو المغولي (إبن تيمية وتلاميذه ومعاصريه مثلاً) فهذه الفترة كان دين الإسلام ودولته على قاب قوسين أو أدنى من النهاية. وقاد إبن تيمية حملة محاربة الطوائف والفرق والإعتقادات التي رأى فيها أكبر خطر وعون لأعداء الخارج. أما قبل هذا العصر فإن الفتوى في الموضوع وحسب المذاهب الفقهية الأربعة في معظمها تراوحت بين الكراهة وعدم الجواز وأحيانا المنع والتحريم. وكان كلامهم عن quot;مشاركة النصارى في أعيادهم ودخول الكنائسquot; ولم يشر أحد إلى مسألة التهنئة وتحريمها. وعللوا عدم الجواز حضور هذه الأعياد بأنه مثل شهادة الزور (الحنبلي والشافعي) أو مخافة أن ينزل سخط الله وهو قاعد بينهم يحتفل فيصيبه (المالكي).

لا تحتاج المعايدات إلى فتوى شرعية. أن تعايد صديقك المسيحي أو جارك أو والدتك المسيحية أمر إنساني بديهي. والبديهات الانسانية هي من الفطرة البشرية التي أشاد بها الإسلام. والإسلام لا تليق به الأزقة والزواريب الضيقة التي تحشرونه والمسلمين فيها. وليكن المسلم مبادراً بفطرته وبديهته الإنسانية غير محتاج لإذن منكم في كل مرة. أخرجوا الفتاوى من تفاصيل الدنيا التي وحسب الحديث الشريف الناس أعلم بشؤونها. صديقي المسيحي الذي أعرفه منذ الصغر لن تعرف مودتَه فتواكُم. واحتفال الدين المسيحي بالميلاد هو ليس احتفال بشيطان !! وإنما بعيسى الرسول والنبي وهو كلمة الله ومن روحه، وكان ميلاده مجيداً لهذه الإنسانية، وسلامٌ عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً.