تلك الشهقة التي بادرتني بها السيدة العربية المولودة في الخليج، عندما زارتني في بيتي، مع عبارة quot;شجرة كريسماس، لكن أنتِ كنت تصومين في رمضانquot; وأردفَت سريعاً quot;يعني أنت مسلمةquot;. لم يكن أمامي إلا مبادرتها بتفهم وأنا أقرأ يومياً الإنتقادات التي توجه في مختلف وسائل الإعلام ومواقع التواصل الإجتماعي حول انتشار أشجار الميلاد في دولة قطر.

فسرت للسيدة التي لم تختلط كما يبدو لي بلبنانيين من قبل، ويظهر أنها لم تعرف الآخر المسيحي حق المعرفة، فسرت لها بأننا في لبنان ومنذ أبصرنا نور الحياة نحتفل مسلمين ومسيحيين بعيد ميلاد النبي عيسى، هكذا عشنا منذ عشرات السنين، وهكذا نُربي أولادنا. نزين الشجرة انتظاراً للعيد، ونشتري الهدايا التي يفترض أن quot;بابا نويلquot; سيحملها، ونحيا فرحة العيد دون أن يلوث هذا إسلامنا، أو يبعدنا عن ديننا.

لم يبد الإقتناع على هذه السيدة التي تتمسك بمبدأ معين في الحياة، لا يمكنني إلا أن أحترمه على الرغم من عدم مماشاتي لها، فلكل منا أسلوبه في الحياة. وهي وإن حاولت أن تبدو هادئة، أشعرتني طوال فترة تواجدها في منزلي بأنها ترمق الشجرة التي بذلت مع صغيرتاي جهداً لتزيينها، بأن في الأمر خطأ ما. لم يطل الأمر حتى عبرت بطريقتها عن أن عيدي المسلمين هما الفطر والأضحى، واستشهدت بخطيب شهير يؤكد هذا الأمر ويشدد على عدم جواز تهنئة المسيحيين بالعيد. وافقتها على الجزء الأول المتعلق بالعيدين، طبعا فلا يمنع أن أكون مسلمة مؤمنة وأحتفل بعيد إضافي، فالفرح بالنسبة لي أمر لا يتطلب الشرك.

أما الجزء الذي يقول بعدم جواز تهنئة المسيحي بالعيد، فكان مستحيلاً أن أسكت عنه، لا لشيء، وليس لأني أملك بالحجة والدليل أقوالاُ لفقهاء مسلمين أكدوا على أهمية هذه التهنئة في التوليف بين القلوب. لم أسكت لأني لبنانية ولدت في بيت مسلم لعائلة اختلطت فيها الأديان والمذاهب، فكان يستحيل علي أن لا أهنئ أقربائي بعيدهم وأقطع صلة الرحم بيني وبينهم. لم أسكت لأني لبنانية صديقتي الأقرب إلى قلبي مسيحية تدافع عن الإسلام وأهله أكثر من أهله. لم أسكت لأني لبنانية ارتدت المدارس المختلطة، وعشت في المناطق المختلطة، والأهم من ذلك أني ذقت مرارة الحرب الأهلية لأن هناك من أراد أن يهمش الآخر في يوم من الأيام فلم يفلح.

لا ألوم تلك السيدة التي قد تكون ولدت وعاشت في بلد مسلم، لم يعرف الإختلاط إلا منذ أقل من عشر سنوات. لا ألومها لأني أفهم أن لها قناعاتها، لكن ألوم من يخرج في بلدي لينادي بنطرية عدم جواز الإحتفال بعيد الميلاد، وينسى أنه لبناني، وأن التجارب المريرة أثبتت أن لا أحد يلغي الآخر، بل حتى لا يستطيع تهميشه. فإن كنت سأبعد ابنتي اليوم عن الإختلاط بالمسيحي، فهي ستلتقي به غداً في الجامعة أو في التاكسي أو في المسرح.. أو حتى عند بائع كأبي الحاج أبو حسن الذي يبيع في حي من أحياء الضاحية الجنوبية لبيروت (ذات الغالبية المسلمة) زينة الميلاد وشجرته.

عندما تجولنا مع صغيرتاي لشراء شجرة ميلاد وزينتها كان الأمر سلساً، فغالبية محلات الدوحة ومتاجرها الكبرى توفر هذه الزينة، وأشجار الميلاد المزينة تتصدر واجهاتها. وهذا الأمر ليس مستغربا في بلد يعمل فيه الآلاف من المسيحيين من كل أنحاء العالم، ومن الطبيعي أن يحتفلوا مع عائلاتهم بمناسباتهم الدينية.

وعندما احتلفت المدرسة اللبنانية في قطر منذ أيام قليلة بعيد الميلاد، كان بين من يقفون على مسرح المدرسة يغنون العيد طلاب لبنانيون مسلمون ومسيحيون ومصريون وقطريون وجزائريون وقلة من جنسيات أخرى. لم يقل أحدهم أن ما يجري حرام.. شارك الجميع طلاباً وعائلات في الفرحة على الطريقة اللبنانية، وعادوا بعدها كل إلى بيته وإلى قناعاته.
بالعودة إلى تلك الشهقة التي أزعجتني، تذكرتها اليوم عندما قابلتني العاملة الفليبينية في أحد متاجر الدوحة بابتسامة وسألتني هل أنت مسيحية فأجبتها بالنفي، أكملت أسئلتها بحشرية وساعدها تساهلي في الإجابات. كانت تريد أن تعرف أكثر عن جنسيتي وبلدي وكيف للمسلمين فيه أن يحتفلوا بعيد مسيحي، لينتهي الحديث مع تناولي هدية طفلتي المغلفة وتمنياتي لها بميلاد مجيد، ابتسمت وعايدتني بالمثل وهي تقول لي أنها تتمنى زيارة لبنان، بعد الذي سمعته مني الآن.

هذا هو لبنان كما عشته لأكثر من ثلاثين عام، وهذا ما أتمنى للبنان أن يبقى عليه، رغم كل ما يجري. أتمنى مع ميلاد المسيح أن يعم السلام فيه وتنتشر المحبة ويحيا أولادنا بسلام دون شهقات تعجب أو علامات استهجان.