بدأت الأحداث التونسية يوم 17 ديسمبر الماضي في شكل احتجاجات عفوية غير منظمة، تحولت بعد ذلك إلى انتفاضة عمت مختلف المناطق، ثم انتهت إلى ثورة سياسية عندما أطاحت بنظام حكم الفرد و استبدلته بنظام ديمقراطي سوف تعمل الحكومة الحالية المؤقتة على تحقيقه. لكن يبقى السؤال كيف و لماذا فشل الجميع في توقع سقوط نظام الرئيس بن علي، بما في ذلك الناشطون السياسيون و المتابعون للشأن التونسي في الدول الكبرى.

عودة سريعة لتتبع مجريات الأمور تؤكد بأنه و حتى اليوم الأخير من نظام بن علي، بقي مؤسس الحزب الديمقراطي التقدمي المعارض، أحمد نجيب الشابي، على رأيه بأن quot;الخروج من الأزمة الراهنة يمر عبر تشكيل حكومة ائتلافية.quot; و لم يختلف موقف القيادي لحركة النهضة الإسلامية حمادي الجبالي كثيرا عن هذا الطرح، إذ صرح لقناة الجزيرة: quot;إن من مهام تلك الحكومة تهيئة الأجواء لانتخابات رئاسية وتشريعية حرة.quot; و حتى سقوط النظام، كان حمى الهمامي، زعيم حزب العمال الشيوعي التونسي و العدو الشرس للنظام، المعارض الوحيد الذي دعا علانية، من داخل البلاد، إلى ضرورة رحيل بن علي. لكن مطلبه هذا كان مبدئيا و لا يعني انه توقع رحيل الرجل بالفعل. و يمكن أن نقول نفس الشيء عن الكتاب المتابعين للشأن التونسي (و أنا واحد منهم)، إذ يكفي أن اذكر هنا بالمقال الذي نشره د. خالد شوكات، ساعات قليلة قبل رحيل بن علي، و هو بعنوان quot;تونس.. في الاتجاه الصحيحquot; الذي تحدث فيه عن الخيارات المتاحة أمام الرئيس خلال السنوات الثلاثة المقبلة.

و لم يختلف الأمر عند الدوائر الغربية، إذ يكفي أن نذكر بما ورد في مجلة quot;ذي ايكونوميستquot; بتاريخ 8 يناير 2011 أي قبل أسبوع واحد من سقوط النظام: quot;من المستبعد أن تؤدي الاضطرابات في تونس إلى إزاحة الرئيس أو حتى اهتزاز نموذج حكمه الأوتوقراطي.quot; كما أعلنت وزيرة الخارجية الفرنسية، ثلاثة أيام قبل سقوط النظام عن استعداد بلادها تقديم الدعم الفني اللازم لقوات مكافحة الشغب التونسية، مما أثار حفيظة البرلمان الفرنسي.

و الجواب على السؤال المطروح أعلاه انه ببساطة لا يمكن توقع الثورات السياسية. لم يتوقع لينين الثورة البلشفية التي قادها بنفسه أشهر قليلة قبل وقوعها، إذ صرح من منفاه بمدينة زيوريخ السويسرية لأحد الصحافيين: quot;ربما أبناء أبنائنا هم الوحيدون الذين سوف يكون بإمكانهم الحياة في ظل الاشتراكية.quot; كما لم تتوقع وكالة الاستخبارات الأمريكية quot;السي-آي-أيquot; وقوع الثورة الخمينية عام 1979 بدليل وصفها لإيران بجزيرة استقرار وسط محيط مضطرب، مما دفع بالرئيس الأمريكي آنذاك لقضاء فترة أعياد الكريسميس في ضيافة الشاه في طهران.

أما الأسباب الكامنة التي تجعل من إمكانية توقع الثورات السياسية قبل وقوعها أمرا مستحيلا، فقد كانت موضوع كتاب شيق للبروفيسور quot;تيمور كوران، و هو بعنوان:quot; حقائق خاصة، أكاذيب على العلن: الآثار الاجتماعية لتزوير الأفراد لخياراتهمquot;
(Private Truth, Public Lies, the Social Consequences of Preference Falsification).

ينطلق الكتاب من فرضية إن الأفراد في ظل النظام الشمولي لا يتجرؤون على القول في العلن ما يؤمنون به في قرارة أنفسهم، لان ثمن قول الحقيقة باهظ في ظل هذه الأنظمة. لذلك فان المتابعين للشأن العام يخدعون بالتقارير التي تدعي وصف الواقع المعاش للمواطنين، كما أن نتائج استطلاعات الرأي تكون مضللة، هي الأخرى، لان تصريحات المستجوبين لا تعبر عن آرائهم الحقيقية. لذلك فان الثورات السياسية تفاجئ الجميع، من حيث الشرارة الأولى التي تفجرها، و من حيث مدى سرعة انتقال هذه الشرارة إلى مجموعات اكبر من المواطنين الغاضبين. فكلما زاد عدد المتظاهرين في الشارع زاد عدد المشاركين الجدد في التظاهرات، لان مخاطر المشاركة تبدأ في الانخفاض على اعتبار أن الحكومة لا يمكنها إلقاء القبض على الجميع. و يرتد ثمن المطالبة بسقوط النظام إلى الصفر عندما تبدأ المظاهرات المليونية في أهم المدن، كما حصل مساء الثلاثاء 1 فبراير الماضي في مصر، مما يؤشر لسقوط النظام بالفعل.

ويبدو لي انه من الواضح الآن (لا قبل نجاح الثورة) إن كافة العناصر المنوه عنها أعلاه قد توفرت في الثورة التونسية الأخيرة. فالشرارة التي تمثلت في إضرام الشاب محمد البوعزيزي النار في جسده لم يكن بالإمكان أن نتوقع تداعياتها لان محاولة شبيهة وقعت قبل سنتين تقريبا من ذلك التاريخ بمدينة المنستير دون أن تكون لها آثار تذكر على الشارع التونسي. و البطالة و تهميش المناطق الداخلية و النائية أمور معروفة منذ العقود الأولى لاستقلال البلاد. كما أن نظام بن علي سبق له أن تعرض لانتفاضات شبيهة نذكر منها انتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008، لذلك لن يكون من السهل التوقع بان يكون الأمر مختلفا هذه المرة؟

لكن للحقيقة أقول انه مع ظهور الرئيس ضعيفا و مستجديا في خطابه مساء الخميس 13 يناير و وعده بعدم استخدام الرصاص الحي ضد المتظاهرين، عرفت أن المطالبة برحيل الرئيس أصبحت في متناول الجميع و أن أية مواصلة جدية للتظاهر ابتداء من اليوم الموالي سوف تعني بداية نهاية النظام. و قد تأكد ذلك لي بالفعل في اليوم الموالي، يوم الجمعة 14 يناير حوالي منتصف النهار، عندما وردت الأنباء عن حشود تعد بعشرات الآلاف تطوق وزارة الداخلية وسط مدينة تونس العاصمة، بالإضافة إلى تظاهرات عمت مختلف الضواحي و المدن الأخرى. لقد توقعت بالفعل سقوط النظام في تلك اللحظة، أي حوالي 5 ساعات قبل هرب الرئيس...
[email protected]