لا أصدق ndash; ولا ينبغي لعاقل أن يصدق- أن الثورات التي تحصل اليوم قد سلكت طريقها تحت عناوين التغطية الإعلامية التي نراها اليوم من أن الشعوب قررت الثورة على الظلم،

عامر الحنتولي

والإطاحة بجلاديها، ومخاطبة مستقبل أفضل، فالمنطق يقول أن آباء وأجداد من قرروا الثورة اليوم في أكثر من بلد في إقليم قد حازوا ظروفا أفضل للإطاحة بالظلم والحكم التعسفي، حين كانت آلة البطش والقمع التي تمتلكها الأنظمة في أدنى مستوياتها، خلافا لواقعها اليوم، لكنها مع ذلك إنهارت كقطع بسكويت هشة، وهي إنهيارات محيرة ومريبة، أخشى أن تكون أغراضها المبطنة غير تلك المعلنة التي ابتهج بها العرب، وصفقوا لها، كالقرعة التي تتباهى بشعر إبنة أخيها.

الحقائق لا الوقائع لا تدفعني لتصديق فكرة سقوط نظام دموي قمعي بوليسي مثل نظام الرئيس التونسي السابق زين العابدين بهذه السهولة، رغم أن هذا النظام كان آلة قتل جوالة حتى لمجرد الشك أو الريبة، بل أن هذا النظام كان معروفا بحاسة الشم للمعارضة حتى عند الأجنة في أرحام التونسيات.. وعلى نفس المنوال لا أقبل سقوط نظام الرئيس المصري حسني مبارك هكذا على يد وائل غنيم وورد الجناين، فمنذ إطلالة غنيم الأولى وأنا لا أصدق براءة المساعي الحثيثة لتخليق وجه بطولي لهذا الرجل الذي يشغل منصبا مهما في إمبراطورية إنترنتية مثل غوغل باتت لاعبا مهما في تفاصيل ربما لم يحن الكشف عنها بعد.

لا يمكن التسليم بأن ما حدث في تونس ثم مصر والآن ليبيا يأتي بمحض الصدفة، فشعب العراق العظيم قام بمئات المحاولات التي خلفت جيوشا من الأرامل والأيتام على يد الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، بل أن محاولات كثيرة ضد هذا الطاغية لم ترو حتى الآن ربما لأنه لم ينج منها شهود عيان، فالأصل أن نظامي بن علي ومبارك شبيهة الى حد التماثل مع نظام صدام حسين.. فمالذي تغير؟!، إلا إذا صدقنا أن quot;فيس بوكquot; و quot;تويترquot; يمكن أن تسقط الأنظمة بهذه السهولة، وبهذا التسلسل الزمني المريب الذي يبدأ بحلفاء تقليديين للولايات المتحدة، وهو الأمر الذي قد يتحول نحو خصوم الولايات المتحدة في مرحلة مقبلة في مسعى لتوفير إنطباع مفاده أن أميركا لا يد لها بما يحصل، وإلا لما أسقطت حليفين لها حتى الآن، والثالث يبدو أنه يترنح وأقصد نام الخيمة في طرابلس، فهذا الديكتاتور ليس إلا حليفا للولايات المتحدة، وهذا الإنطباع ربما يثبت جدواه إن إنتقل فايروس إنهيار الأنظمة الى العاصمة الإيرانية.

ومثلما نجت إسرائيل من عواصف quot;ويكيليكسquot; ها هي بقدرة قادر تنجو من فايروس الإحتجاجات، فالمعطيات الراسخة تشير الى أن الشعب الإسرائيلي يشترك مع العرب في نفس الظروف المعيشية بل والواقع السياسي، وأن إقتصاد إسرائيل يتدهور، وأن الفقر والبطالة والمخدرات والدعارة وغسيل الأموال يتفشى بجنون داخل المنظومة الإسرائيلية، بل أن السياسي الإسرائليل فاسد تماما مثل السياسي العربي فلماذا لا نشهد ثورة في إسرائيل وقودها ملايين يهود الفلاشا الذين هجرتم إسرائيل الى ما يسمونه الوطن الأم في ظل واقع مزري يعيشونه، إلا اللهم إذا كان الإسرائيليين لا يمتلكون حسابات على فيسبوك وتويتر، أو أنهم لا يملكون جرأة وبطولة وائل غنيم!!.

تقديري المتواضع الذي أقوله وأنشره بكل صدق ndash; درءا لخيبة عربية تكتشف كالعادة في وقت متأخر- أن ما يحدث لا علاقة بالثورات، وأن مستقبل هذه الثورات لا يمكن أت تأتي بالأفضل، ولن تحققه لأننا لن ننتظر بضعة شهور، إلا وسنجد وجها آخر لأفراحنا وبهجتنا، إذ أن البؤر التي ثارت ستتحول الى نسخ صغيرة من جهنم لكن على الأرض، وأخشى أن تكون هذه الملاحم الأرضية مقدمة لأن تدخل دول الإستعمار القديم في مسعى لوضع اليد على مناطق النفوذ القديم، وإستعادتها للتهدئة، وفرض وقائع جديدة على الأراضي تنتهي بنسخة محدثة وربما مطورة للإستعمار، مع تسجيل مفارقة مؤلمة ومضحكة في آن واحد وهي أن العرب يترحمون في الوقت الراهن على زمن الإستعمار، الذي لم يأت التحرر الشكلي منه بأي جديد، وأن الأفضل الذي انتظروه من التحرر غدر بهم ولم يأت.

الوقائع لا الحقائق تقول بأن مؤتمر سايكس بيكو الذي عقد في عام 1916، وأفضى الى شكل العالم الذي نراه اليوم بين دول النفوذ العالمي، قد قرر أن هذا الإتفاق صالح للتطبيق لمدة قرن، تكون بعده خريطة العالم قابلة للتدقيق والمراجعة مجددا للإتفاق على وضع جديد، وربما خريطة جديدة قد يضاف إليها دولا جديدة، وربما يشطب منها دولا قائمة في الوقت الراهن، وربما نشهد من جملة ما قد تخبئه الأعوام المقبلة حصول إندماجات جبرية بين عدد من الدول، يصار من خلالها الى شطب العديد من القضايا الراهنة مثل القضية الفلسطينية بكل تشظياتها، وقد يشطب أيضا الطلاق المتكرر في لبنان عبر تشظي هذا البلد الى كيانات لا ينقصها إلا الإعلان الرسمي، يمكن أيضا أن نرى دولة قوية تضم أكراد العالم، في حين أن كل هذه المعطيات تقوي جهة واحدة ووحيدة هي إسرائيل التي قد تتوسع جغرافيا أكثر بكثير مما هي عليه اليوم.

لقد فاجأنا عام 2011 بسقوطين مدويين في الشهر الأول منه، علما بأن السنوات المتبقية من القرن الأول لتطبيقات سايكس بيكو لا تتعدى السنوات الخمس، فإذا استمرت الإنقلابات الشعبية على هذا المنوال، فإن القوى العظمة لن تحتاج الى هذه السنوات القليلة المتبقية، إذ قد تكتب شهادة وفاة سايكس بيكو قبل إكتمال العام الأخير من القرن الأول على تطبيقها، وقد نجد أنفسنا أمام إتفاقية إستعمار جديد تلزمنا بتغيير وثائق إثباتاتنا وسفرنا، لأننا قد نفيق على هويات جديدة لا تغير فيها أسمائنا الثابة من واقع الحال شيئا.

بقيت نصيحة.. على العرب ألا يفرطوا بالفرحة، وألا ينشغلوا في ظل إلتهامهم لأطنان المكسرات والكستناء وهم يتابعون quot;الجزيرةquot; و quot;العربيةquot; بفرخ غامر، أن الثورات المزعومة قد تنهار على رؤوسهم في أقرب الآجال، وأنه يتعين عليهم السؤال مالذي يحدث.. ففي اليمن المرشح لثورة من نفس القماشة يروي فيها (ثورجي) يمني قديم بأنه شارك بكل قوته في الثورة اليمنية ضد الإستعمار البريطاني في عدن، وأنه كان ينشد حياة أفضل، وبعد أن نجحت الثورة ضد الإستعمار فقد تغرب هذا (الثورجي) مطولا في أحد الدول المجاورة كخبير عسكري لتأسيس نواة الجيش في بلد الإغتراب، لكنه فشل في مقاومة شوقه وحنينه للبلد المحرر، إذ قرر زيارة بلده، الذي ما إن وصله حتى أخذته قدميه الى سوق السمك وهي عادة محببة عنده مذ كان طفلا يرافق والده، وما إن دخل (الثورجي) سوق السمك حتى زكمت أنفه رائحة كريهة جدا، وهالته الأسعار المرتفعة للسمك.. فوقف مصدوما قبل أن يقف عند بائع سمك ليسأله عما يحدث فأخبره البائع أن الحال ساء كثيرا بعد الثورة، وحين أراد (الثورجي) جداله بأن سوق السمك كان أفضل وأسعاره أرخص أيام الإستعمار.. ضحك البائع قائلا عبارة صادمة: quot;أعد لي الإستعمار وخذ مني السمك ببلاشquot;.

بقيت حقيقة.. كشاب لا أكتم فرحتي بزوال الأنظمة المستبدة وفي مقدمتها أنظمة بن علي ومبارك والقذافي والحبل على الجرار، لكني لأكثر من سبب قررت أن أقتصد جدا بهذا الفرح، خصوصا وأن المخاوف من هذه (الثورات الفالصو) أكبر بكثير من أي سبب للفرح.

كاتب وصحافي أردني
[email protected]