توجد أربعة أنظمة فكرية أو أربع لغات في جواز استخدام العنف ومشروعيته من حرمته وعدم جواز استخدامه:
1 ـ فاللغة الأولى هي شريعة الغاب؛ القوي فيها يأكل الضعيف، ولايوجد أي ظل لأي قانون ضمن الدولة الواحدة أو بين الدول، وهي مرحلة مشى فيها الجنس البشري وهو يودعها تقريبا الآن، وقد يعترض من يقول: لا إن الوضع لم يتغير، وهذا ينسف كل إمكانية أو تحقيق أي تطور عن الانسان والجنس البشري عموما، وهو تصور غير صحيح في ضوء إنجازات الجنس البشري حتى الآن، من نظام الأمم المتحدة ومحكمة لاهاي للعدل الدولي ومنظمات حقوق الانسان ومعاهدة جنيف لاسرى الحرب ومنظمة الهلال والصليب الأحمر الدوليين... الخ
وهذا لايعني الكمال في الانجاز ولكنها خطوات متواضعة في طريق تحقيق الكمال الانساني والدولة العالمية الواحدة لتأمين الخبز ودحر المجاعات واحتكار السلاح وإيقاف الحروب.
2 ـ واللغة الثانية هي لغة الديموقراطيات الغربية، وتؤمن بالعنف لاطاحة الحكومات الظالمة المستبدة، وتحرم العنف بعده، ويصب معهم في نفس الاتجاه تيار (الخوارج) من التاريخ الاسلامي ، الذين لم يؤمنوا باستقراطية الحكام (أن يكونوا من قريش مثلا) فالعبد الأسود (كونه من الشرائح المستضعفة في قاع المجتمع) يمكن أن يتولى منصب الرئاسة كما هو الحال في نيلسون مندلا في جنوب أفريقيا الآن، وهذا التصور كان مستحيلاً في تلك الأيام، كما آمنوا بالثورة المسلحة لتغيير الحاكم المنحرف (وهو ماتفعله جماعات الاسلام السياسي في الوقت الحاضر حيث أحيت مذهب الخوارج من جديد)، فالخوارج رأوا في الحكم الأموي أنه غير اسلامي (على كل حال هم يُكَفِّرون مرتكب الكبيرة ولقد كفروا عليا واستباحوا دمه ثم قتلوه في النهاية) وظالم فوجب الاطاحة به، وقد استنفدوا طاقتهم في الصراع مع الأمويين، وجعلوا الدولة الأموية تنزف حتى الموت، وسقطت كالتفاحة الناضجة ليست بأيديهم، ولابأيدي آل البيت المنتظرين بفارغ الصب، بل بيد العباسيين المحنكين، المختبئين في الظلام المجهولين؟!
3 ـ واللغة الثالثة هي لغة الأنبياء الذين حرموا صناعة الحكم بالقوة المسلحة وبالعنف من خلال الانقضاض على الحكومات القائمة ، حتى لو كان مجيئها إلى السلطة بالسيف وبالعنف ، فاللاشرعية لاتزال باللاشرعية ، بل بالشرعية ، والخطأ لايزال بالخطأ بل يُقَوَّم بالعمل الصحيح ، وهذا مافعله الرسول (ص) الذي غير المجتمع بالفكر وسلمياً ، فحين فشل في اختراق مجتمع مكة والطائف ، نجح في نشر دعوته في أهل يثرب التي ستأخذ اسم مدينة الرسول (ص) بعد ذلك (المدينة المنورة)، حتى تفشى الاسلام في مجتمع المدينة ، فلم يذهب اليهم على ظهر الدبابات بانقلاب عسكري ، بل خرجوا لاستقباله في مظاهرة ضخمة ضمت أهل المدينة من الرجال والنساء، في مشاركة رائعة، مع فرقة موسيقية كاملة، والكل ينشد طلع البدر علينا، معلنين خضوع مجتمع المدينة للفكرة الجديدة بدون سفك قطرة دم واحدة، وهذا التحول المدهش في مجتمع المدينة المنورة سابقاً وبهذه الطريقة السلمية، غابت عن أعين المسلمين منذ ذلك الوقت، وعطلوا سنة عظيمة من سنن الاسلام في كيفية بناء المجتمع أو معالجته حين الانحراف، وتبخر الحكم الراشدي تحت حرارة العنف ودمويته، وانزلق المجتمع الاسلامي إلى ليل التاريخ حيث المغامرين والانقلابيين يتناوبون قنص السلطة الدموي بدون رحمة، ولم يخلص العالم الاسلامي من هذا المرض حتى اليوم، وأعيد مذهب الخوارج بكل عنفوانه وقوته مرة أخرى، في مناطحة الحكومات واستنفاد الجهود في معارك مدمرة ، بحيث توقفت عملية نقل السلطة السلمي، وتحول المجتمع إلى شرائح لاتثق بعضها ببعض، وتوقف الحوار، وأضمرت النفوس الحقد والتآمر، وسُفكت الدماء غزيرةً.
4 ـ وأما اللغة الرابعة فهو بعد قيام الحكم الشرعي، فإذا صار الحكم شرعياً، استطاع وسُمح له بالجهاد المسلح، بعد أن بنى مجتمع (اللا إكراه) عند ذلك من لايريد أن يدخل في السلم، ويريد أن يُكره الناس على أي دين ومبدأ وفكرة، فهذا يتصدى له المجتمع الاسلامي (مجتمع لا إكراه في الدين)، فهذا هو مجال الجهاد، أي حماية الناس من الفتنة (الإكراه) (وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة) (والفتنة أشد من القتل) وهذا يتولد منه مجموعة هامة من المعاني: الجهاد هو لحماية المخالف، والجهاد أداة واحتكار للعنف بيد السلطة، والسلطة أي سلطة لايسمى ماتفعله جهادا حتى يتم وصولها إلى الحكم برضا الناس، فالجهاد هو ذو جانبين في المجاهد (بكسر الهاء) والمجاهد (بفتح الهاء) ضده، فلاجهاد إلا بيد سلطة وصلت إلى الحكم برضا الناس، ولاجهاد إلا ضد من يمارس الظلم على الآخرين (بإخراجهم من ديارهم وأديانهم بالقوة المسلحة) (لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم).

في المجتمع الاسلامي (مجتمع اللا إكراه) لايقتل الانسان من أجل آرائه أياً كانت الأفكار، سواء تركاً أو اعتناقاً (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)( الكهف : 29 ) (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)( يونس : 99) (ولوشاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين الا من رحم ربك ولذلك خلقهم)(هود : 119) ففي الآية الأولى فتح القرآن المجال لحرية الفكر في أي اتجاه، لإن الكفر بشيء هو إيمان بشيء مقابل، وشهادة أن لا إله إلا الله تبدأ بفقرة النفي قبل التأكيد، فقبل الايمان بالله يجب الكفر بكل إله آخر، واذا فتح القرآن المجال للفكر بالايمان والكفر فهو من باب أولى لنفس المبدأ، أي تبديل الاتجاه، أي الايمان بمبدأ وترك سواه أو اعتناق مبدأ ثم تركه والتخلي عنه لصالح مبدأ آخر، وهذا يفند الاتجاه العام للمفهوم السائد بقتل المرتد، لإن المرتد هو الذي يعتنق مبدأً ثم يتركه، فكيف تسمح الحرية الفكرية لاعتناق مبدأ ثم تحبسه فيه؟!
إنه لاحرية فكرية مع هذا الحجر، فهذه المقولة تدشن العصبية الفكرية باتجاه واحد، فهي تسمح باصطياد الاتباع لحبسهم ضمن دائرتها بدون السماح لأحد بالفكاك منها، فهي إعلان وصاية فكرية بأن فكرة ما هي الحق المطلق وأن العقل الانساني مسموح له بالحركة في اتجاه واحد فقط، مما يحول الحياة إلى شيء مستحيل، ولنتصور سيارة تملك إمكانية المشي للأمام فقط، بدون إمكانية الرجوع للخلف؟! إن هذا سيمنع إمكانية المناورة، بل سيجعل حركة السيارة قريبة من المستحيل، من مثل عندما تكون السيارة في الكاراج فإنها سوف تحبس في الكاراج بدون إمكانية خروج عادية!!
ولذلك أكدت الآية الثانية أنه لاإكراه في الإيمان، واعتبرت الآية الثالثة أن هذه طبييعة في الوجود لإنه مركب على أساس الاختلاف والتباين.

إذاً من الذي يُقاتل أو ضد من يُوجه الجهاد المسلح؟ إنه فقط ضد الذين يريدون إكراه الناس (حتى لاتكون فتنة) وبالقوة المسلحة على الخروج المزدوج (من أديانهم أو ديارهم) أو إذا أردنا توحيد الفكرة فنقول:
جرت العادة أن الناس يُطردون من بيوتهم من أجل عقائدهم كما حصل اليوم في البوسنة وكوسوفو، فالاسلام جاء لإدخال الأمن الاجتماعي وإعلان (حق الوجود للمخالف) فهذا هو الجهاد، فهي تلك الأداة من (العنف) والمحتكرة من الدولة والتي تُسلط لحماية المخالف، ضد من يمارس الاضطهاد على الناس، فالجهاد شُرع ليس لنشر الاسلام، بل لحماية المخالف وتأمين الوسط الفكري الحر، فالمجتمع الاسلامي سيكون ذلك المجتمع الذي يقصده اللاجئون السياسيون من كل دولة، وليس عكس مايحدث اليوم حيث يفر المسلمون من كل بقاع العالم الاسلامي للغرب (والشاطر الذي يحظى بجنسية أوربية أو كندية استرالية أو أمريكية بل ومن جزر الكاريبي ليشعر بالأمان؟!) كل ذلك لإن المجتمع الاسلامي اليوم هو مجتمع الغدر وعدم الأمان، وهو مرض ليس بالجديد بل هو قديم قدم العالم الاسلامي، فحتى الكلاب لم تأمن على نفسها أحياناً (في فترة الحاكم بأمر الله الفاطمي صدر أمر بقتل الكلاب فتمت ملاحقتهم والقضاء عليهم إلى درجة أنهم كادوا أن ينقرضوا، وقتل في القاهرة لوحدها وفي فترة قصيرة ثلاثين ألف كلب!! فليس هناك أمان لأي كائن أو شيء)(يراجع في هذا كتاب الحاكم بأمر الله بقلم عبد المنعم ماجد وكتاب سلطانات منسيات لفاطمة المرنيسي) وإذا كان الجهاد المسلح هو لحماية المخالف وضد الظالم، فهي أداة مسخرة حتى ضد المسلم عندما يكون (ظالما)، وهي ليست ضد الكافر طالما كان عادلاً، وهو تحرير مهم لفكرة الجهاد كونه دعوة لأقامة حلف عالمي لرفع الظلم عن الانسان أيا كان، فهي قد تكون ضد الظالم المسلم، لتحرير الكافر المظلوم كي لايمارس عليه أي إكراه.
بهذه الكيفية يجب أن نفهم اللغة الرابعة كي لانفتري على الله كذباً.

وهذه الآلة الخطيرة (كونها تسفك الدم) غير متروكة للأفراد أو الجماعات والتنظيمات والأحزاب وسواها، كما يحلو للبعض وكما نسمع الفرقعات في كل مكان من الجزائر والعراق مرورا بمصر وانتهاء بأفغانستان، فعندما تبيح مجموعة من الناس لنفسها حق استخدام القوة المسلحة للتغيير الاجتماعي فهي على طريقة الخوارج ومذهبهم، بل هي بيد الدولة (والراشدة) كي يأخذ (العنف) معنى الجهاد، فلاجهاد إلا بيد حكومة (راشدة) وصلت إلى الحكم برضى الناس، ولاجهاد إلا ضد من يستخدم القوة المسلحة لإكراه الناس على الخروج من ديارهم وأديانهم (أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله)( الحج 40 ) وهذا معنى مؤكد وموثق في سيل الآيات القرآنية (لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) (الممتحنة: 8) فإذا اسُتخدم العنف بيد الحكومات الظالمة ضد الناس فهو ليس جهادا بل دكتاتورية، كما أن العكس صحيح، فالذي يريد إزالة الظلم بالعنف وبالقوة المسلحة فإنه سيعيدها سيرتها الأولى، ولن تتحسن الأحوال كون الذي يمسك الحكم بالسيف سيعود لاستخدامه، وهكذا يصبح السيف هو الحكم النهائي لحل المشاكل، وهو الدم الذي غرق فيه العالم الاسلامي ومازال.