لا يمكن لأمة أن تُستعبد لولا استعدادها على نحو خفي للعبودية

كانت توقعات الناس أن القيادة السورية مع أحداث درعا أن تقدم تنازلات وهو جهل بالسياسة والتاريخ وعلم الاجتماع، بسبب الجهل بطبيعة الأمراض الاجتماعية؟ ومن رأى مجلس القرود عفوا مجلس الشعب وكيف يصفق؟ لقال هل أنا في حلم أم علم؟
ولو اجتمع أهل درعا كلهم وليس بينهم طبيب واحد على مصاب باليرقان (أبو صفار) لما تقدموا بحل معضلة مرضه إلا سقاما، ولذا وجب تشريح بنية العقرب السياسي في الغابة العربية...
يطرح (اتيين دي لابواسييه 1530 - 1562) في مقالته عن (العبودية المختارة) هذا السؤال المحير: (شيء واحد لا أدري كيف تركت الطبيعة الناس بلا قوة على الرغبة فيه وهو (الحرية) التي هي الخير الأعظم وضياعها تتبعه النكبات تترى وما يبقى بعده تفسده العبودية وتفقده رونقه).
ولكن لماذا تسقط الأمم في قبضة الديكتاتورية؟ وكيف تصاب مجتمعات شتى بهذا المرض الخبيث في التاريخ بحيث يشترك في توصيفه كل من (الكواكبي) و(لابواسييه) بأقبح النعوت، أما الأول فيصف الاستبداد في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) أنه لو كان رجلاً وأراد التعريف بنفسه لقال:
(أنا الشر وأبي الظلم وأمي الإساءة وأخي الغدر وأختي المسكنة وعمي الضرر وخالي الذل وابني الفقر وابنتي البطالة ووطني الخراب وعشيرتي الجهالة).
أما (لابواسييه) فيصف الديكتاتورية: (ما هذا يا ربي؟ كيف نسمي ذلك؟ أي رذيلة تعيسة أن نرى عدداً لا حصر لهم من الناس يحتملون السلب والنهب وضروب القسوة لا من عسكر أجنبي بل من واحد لا هو بهرقل ولا شمشون. إن لكل رذيلة حدا تأبى طبيعتها تجاوزه. فأي مسخ من مسوخ الرذيلة هذه لا يستحق حتى اسم الجبن ولا يجد كلمة تكفي قبحه، والذي تنكر الطبيعة صنعه، وتأبى اللغة تسميته؟).
نحن نعرف من علم البيولوجيا أن الكائنات تمرض كما تنهار الدول وتنقرض الحضارات فلا تسمع لهم ركزا.
ولكن ماهو المرض تحديدا وكيف يحدث؟
هل هو بسبب هجوم عنصر خارجي أم هو تعبير عن انهيار داخلي؟ هل هو أمر طبيعي أن تخسر الشعوب حريتها ؟ يقول السياسيون إن الطغيان يحصل بـ (تسلط الفرد) على الأمة بسلاح الخوف، ولا يفسرون لنا كيف يمكن لبشر فرد أن ينجح في بناء آلة رعب بحجم ديناصور لاحم.
ويرى المثقفون أن (القوة) هي التي تقرر مصير الأمة فلا يمكن (لعين أن تقاوم مخرز ودبوس ومسمار؟) ولا لعصفور أن يواجه مسدسا كما جاء في شعر القباني رحمه الله.
ولكن القرآن يعكس هذا المفهوم فيلوم الضحية وليس الجلاد وينفرد بمصطلح (ظلم النفس) فما يقع للناس هو بما (كسبت أيديهم) وما ربك بظلام للعبيد، ويلوم (المثقف) الذي يجب أن (يبين) الأفكار للناس ولا يقعد في جيب الحاكم.
ويعتبر أن (الأفكار) هي التي تغير المجتمع وليس تغيير الحكام، لأن الطغيان سوف يستبدل بطغيان أشد، وعندما خسرنا الحياة الراشدة وحكمنا السيف تغيرت سيوف كثيرة على رقابنا ولكن الحياة الراشدة لم تعد قط.
ولا يفرخ مجتمع طاغية إلا بالاستعداد الخفي، ولا تخرج الدمامل إلا في جسم منهك بمرض السكر أو الايدز.
وبالمقابل فإن تغيير الواقع يتم بتغيير رصيد ما بالنفوس وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، والأمراض الاجتماعية في النهاية تحملها (وحدات) من الأفكار كما حملت الأمراض (الوحدات) الإمراضية من جرثوم وفيروس.
ولا يمكن لطفل أن يقود جملا لولا أن الغلام يحمل من الوعي ما يفقده الجمل، ولا يمكن لأمة أن تُستعبد لولا استعدادها على نحو خفي للعبودية، ولا يمكن لدكتاتور أن يقعد على رقبة شعب واعي. ولا تحط النسور الى على الجثث. فهذا مفتاح جوهري في فهم المشاكل.
ويترتب عليه أمر هام وهو تحديد منطقة الحفر في طبقات آركيولوجيا المعرفة على حد تعبير (فوكو) الفيلسوف الفرنسي. الغصن يتهاوى الى الأرض في فصل الخريف بتفسخ الارتباط مع الشجرة الأم، وينفجر المرض بانهيار الجهاز المناعي، وتمرض النفس بعبادة الذات الفانية، وتتداعى الدول بالتفكك الداخلي، ولم يظهر الخراج الصهيوني لولا المرض العربي، وتتلاشى الحضارات من صفحة التاريخ بالانتحار الداخلي كما ذهب الى ذلك حجة التاريخ (توينبي) في كتابه (دراسة التاريخ STUDY OF HISTORY). وتعرض (لابواسييه) في رسالته القيمة عن كيفية السقوط في وهدة العبودية فأشار الى أربعة أفكار رئيسية: (سلطان العادة) وكيف أنها تتحكم في السلوك على ثلاث مراحل، وكيفية (تغير محتويات النفس) مع الوقت وانقلاب الأوضاع لتصل الى درجة من البؤس لايصدقها أكثر المتشاءمين؛ فالفرس البري يجمح براكبه والمروّض يتباهى بسرجه ويفلسف بؤس العبودية. وأن (أصناف الطغاة) ثلاثة. وأخيرا أن المجتمعات تنساق الى العبودية بثلاث طرق. فأما الطغاة فهم على أنواع فمنهم من يمتلك الشعب عن طريق الانتخاب(المزور) (والبعض الآخر بقوة السلاح، والبعض الثالث بالوراثة المحصورة في سلالتهم) وعندما يريد المقارنة بينهم يرى بعض (الاختلاف) ولكنه لايرى (اختيارا) بينهم. بسبب طرق الوصول الى الحكم وأسلوبه: (فمن انتخبهم الشعب يعاملونه كأنه ثور يجب تذليله، والغزاة كأنه فريستهم، والوارثون كأنه قطيع من العبيد امتلكوه امتلاكاً طبيعياً) أما الوقوع في قبضة العبودية فهي بدروها ذات ثلاث شعب لاظليل ولايغني من اللهب (فهو يقينا لاينساق الى العبودية الا عن أحد سبيلين أما مكروها أو مخدوعاً) (مكرهاً) بسلاح أجنبي أو (طائفة) من مجتمعه وأما (الخديعة) فكما حصل مع أهل صقلية عندما استبدلوا الرمضاء بالنار فرفعوا (ديونيسيوس) الى سدة الحكم لانقاذ البلد فتسمى :(باسم القائد ثم الملك ثم الملك المطلق) ثم ليأخذ اسم الطاغية في التاريخ(TYRAN). وأما (تغير السلوك التدريجي) فمن نشأ في الاستعباد يشبه من اعتاد شرب السموم فلا يؤثر فيه لدغ الثعابين، أو يشبه أهل المناطق الاسكندنافية العليا فمن ولد في الظلام لأشهر طويلة يفاجيء بسطوع ضوء الشمس ويظن كما يحصل لحيوان (الخلد) أن الظلام هو أصل الأشياء، أو كما اعتادت الشعوب العربية على (الأحكام العرفية) فهي لاتعرف ماهي (الحالة الدستورية) وكل هامش خلاص ينفحه الحاكم بما فيها منحة (الديموقراطية) تأخذها الشعوب انها هبة تتصدق بها يد عليا. وكما يقول (مكيافيللي) في كتابه (الأمير) أن على الحاكم أن يعطيهم (الرحمة) بالقطّارة أما (العذاب) فيجب أن يصب من فوق رؤسهم كالحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد، بمعنى أن الناس متى سقطت في فخ العبودية صعب عليها جداً الخلاص من شركه. قد يعرف الجيل الأول مرارته أما من ولد فيه فالاغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون، اعتادوا عليه يعتبرون أن نظم الحياة يمشي هكذا، كما في بطء ضربات القلب عند السلاحف أو برودة الماء عند السمك. كذلك ترى المجتمعات أن (الطغيان) هو من طبيعة الأشياء. يقول (لابواسييه): (لنقل إذن أن مادرج الانسان عليه وتعوده يجري عنده بمثابة الشيء الطبيعي ومنه كانت (العادة) أول أسباب العبودية كشأن الجياد الشوامس تعض الرسن بالنواجذ في البدء ثم تلهو به أخيراً وبعد أن كانت لاتكاد تستقر تحت السرج إذا هي الآن تتحلى برحالها وتركبها الخيلاء وهي تتبختر في دروزها تقول انها كانت منذ البدء ملكاً لمالكها، وأن آباءها عاشت كذلك، وتظن أنها ملزمة باحتمال الجور، وتضرب الأمثلة لتقتنع بهذا الالتزام، وبمر الزمن تدعم هي نفسها امتلاك طغاتها اياها). وهنا نفهم معنى الهجرة في الاسلام، ونفهم المغزى العميق من قصة أصحاب الكهف الذين هربوا الى كهف بارد وضنوا بكلبهم أن يبقى في مجتمع تبخرت منه الضمانات. والمجتمعات الوثنية لاتحمل أي ضمانة لأي أنسان أ وحيوان أو شيء في أي زمان أو مكان. أو قصة موسى وهو يعبر ببني اسرائيل البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم. إنها نفض اليد من وسط محنط ميت وإعلان ولادة مجتمع جديد. إن ابراهيم كان مشروع أمة، كذلك الحال في فتية الكهف، أو عبور بني اسرائيل الى سيناء كي تكون مدفنا جماعياً لهم لجيل كامل خلال أربعين سنة يتيهون في الأرض؛ فيخرج من أصلابهم جيل جديد لايعرف الا الصحراء والحرية. إن بني اسرائيل الذين خرجوا من أرض فرعون لايصلحون لحمل رسالة موسى، بل لابد من جيل جديد لايعرف الطغيان، ولايستطيع العيش في ظروف الدكتاتورية. ذكرت سابقاً أمراض المجتمع العربي الاسلامي (العشرة) وكان في رأس القائمة (تقديس الآباء) أو ماكرّره القرآن بتعبير إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون بالاضافة الى (2) تأليه القوة (3) واحتقار العلم و(4) تبرئة الذات واتهام الآخرين و(5) اجازة الغدر و(6) ظن أن النص يغني عن الواقع أو مرض انفكاك النظرية عن الممارسة والتاريخ و(7) الاهتمام بفضائل الجهاد بدون معرفة بشروطه وهو الخراج الذي فجّر كل مشاكل العنف في المجتمع العربي و(8) رفض المسلمين للديموقراطية مع أنها أقرب الى الرشد من كل ماعليه واقع المسلمين السياسي اليوم و(9) وتمكن العقل الخوارقي الاسطوري في حياتنا وانحسار العقل العلمي و(10) ظن أن الأحكام لاتتغير بتغير الأزمان أي كأن العدل لايمكن أن ينمو أكثر فأكثر. ويتعلق المرض الأول أي (سلطان العادة) بهذه الحزمة من الأمراض كسبب أساسي في رسوخ شجرة الطغيان. ويختصر (لابواسييه) الخلاص من الطغيان بوصفة بسيطة واضحة ليس قتله بل عدم طاعته:(اعقدوا العزم الا تخدموا تصبحوا أحرارا فما أسألكم مصادمته بل محض الامتناع عن مساندته، فترونه كتمثال هائل سحبت قاعدته فهوى على الأرض بقوة وزنه وحدها وانكسر). ويتكلم القرآن بنفس المنطق عن جدلية الطغيان بتعبير الكلمة الطيبة والخبيثة؛ فيشبه الاثنتين بشجرتين وعلى مايبدو فإن هذا يصلح تفسيرا لماذا تكبر شجرة الديكتاتورية فيصل سعفها الى أعلى من شجرة نخلة باسقة طلعها كأنه رؤوس الشياطين، ولكنه نمو يحمل إمكانية سقوطها تحت ثقلها الخاص، فهي في النهاية تجتث من فوق الأرض مالها من قرار، وبكل أسف فإن هذه الوصفة النبوية لم يستفيد منها أحد لا الاسلاميون ولاغيرهم بل تبنى الجميع مذهب الخوارج في قتل الحاكم بالسيف، أو مذهب الثورة الفرنسية في فصل رأس المستبد على مقصلة. تقول الرواية أن الطبع يغلب التطبع ولكن مشرِّع اسبرطة (ليكورج) أثبت عكس هذا بالتجربة حيث عمد الى تربية كلبين خرجا من بطن واحدة جعل الأول يسمن في المطابخ والثاني يجري في الحقول حتى إذا كبرا بما فيه الكفاية جاء بهما الى السوق ثم وضع أمامهما وعاء من الحساء بجانب أرنب وأطلق الكلبين فإذا أحدهما يلعق الوعاء كسولا رخوا واما الثاني فيضرب في البراري يلاحق الأرنب المذعور. قال ليكورج يعلق على المنظر المثير ومع هذا فهما أخوان. إن التربية قد تهبط بالانسان الى أسفل سافلين فتمسخ الانسان الى شكل القردة والخنازير، أو قد ترتفع به الى أعلى عليين فتسجد له الملائكة أجمعون. وأن رصيد السلطة هي من الجهل أو المعرفة ولم يكن للشيطان سلطان على الناس الا من اتبعه من الغاوين.