....
قال بثبات:
_لا يحيا إلا الأحياء.
_نحن أحياء ولكن لا حياة لنا..
فسأل:
_ماذا ينقصكم؟
_الرغيف..
فقال عاشور:
_بل القوة!
_الرغيف أسهل منالا..
_كلا!
فسأله صوت:
_إنك قوى عملاق فهل تطمح إلى الفتونة؟
وقال آخر:
_ثم تنقلب علينا كما إنقلب وحيد وجلال وسماحة!
وقال ثالث:
_أو تقتل كما قتل فتح الباب...
فقال عاشور:
_حتى لو صرت فتوة صالحا فما يجدى ذلك؟
_نسعد فى ظلك!
فقال آخر:
_لن تكون صالحا لأكثر من ساعة!
فتساءل عاشور:
_حتى لو سعدتم فى ظلى فماذا بعدى؟
_ترجع ريما لعادتها القديمة..
وقال رجل:
_لا ثقة لنا فى أحد، ولا فيك أنت!
فإبتسم عاشور قائلا:
_قول حكيم.
وقهقه الحرافيش فعاد عاشور يتساءل:
_ولكنكم تثقون فى أنفسكم!
_وما قيمة أنفسنا!
فتساءل عاشور بإهتمام:
_أتحفظون السر؟
_نحفظه من أجل عيونك!
فقال عاشور بجدية:
_لقد رأيت حلما عجيبا، رأيتكم تحملون النبابيت..
وقهقهوا طويلا، مشيرا إلى عاشور:
_هذا الرجل مجنون ولا شك، لذلك فإنى أحبه..
(منقول بالنص من رواية نجيب محفوظ ndash; الحرافيش ndash; صفحة 549 -550 وقد نشرت فى عام 1977 )
......
لمن قرأ أدب نجيب محفوظ يعرف جيدا الفرق بين الحق والقوة، فكما قال سعد زغلول أن quot;الحق فوق القوة وأن الأمة فوق الحكومةquot;، فهذا كلام رائع يتطلب دولة مدنية محترمة يتساوى فيها المواطنون لكى يصبح الحق فوق القوة، أما فى دولة الفتوات فإن الواقع على الأرض يثبت أن القوة دائما فوق الحق، وكما ترون فى آخر رواية الحرافيش فإن عاشور بطل نجيب محفوظ قال للحرافيش (عامة الشعب وفقراؤه) أن ما ينقصهم هو القوة وليس الرغيف كما كانوا يعتقدون وأنه حلم quot;حلماquot; عجيبا حين رآهم يحملون النبابيت (القوة)، وإعتبر الحرافيش أن عاشور مجنونا ولذلك أحبوه، وفى النهاية أصبح عاشور بطل الحرافيش والذى قاد ثورة الحرافيش (الشعب) على الفتوات (النظام)
والصراع بين الحق والقوة هو صراع البشر عبر التاريخ، حتى إهتدى الإنسان إلى نوع من التوافق أو التعايش الجزئى بين الحق والقوة، عن طريق الديموقراطية وتبادل السلطة، وقد يتم تبادل السلطة أيضا بين نادى quot;الفتواتquot; ولكنه على الأقل عندما يتم تبادل السلطة فإنه يعطى شعورا بالأمل، ولم يحدد لنا نجيب محفوظ فى نهاية رواية الحرافيش كيفية إختيار الفتوة المقبل، وكيف يتم تغييره إذا لزم الأمر، ونجيب محفوظ كان شديد الإعجاب بالديموقراطية الإشتراكية المطبقة فى بلاد الإسكندنافيا وخاصة السويد، حيث أنه تزواج جميل بين الحرية وتبادل السلطة والعدالة الإجتماعية، لذلك فإن الإحصائيات تقول أن أسعد شعوب الأرض تعيش فى دول الإسكندنافيا، وطبعا ساعدها على ذلك قلة عدد السكان، وهذا يحدث حتى على مستوى الأسرة، فالأسرة التى لديها طفلين عادة أسعد حالا من الأسرة ذات العشرة أطفال.
المهم نرجع لموضوعنا الأساسى: من يملك القوة الآن فى الشارع المصرى بعد ثورة 25 يناير؟ فى عنفوان الثورة وبعد أن أنتصر شباب الثورة كانت لهم اليد العليا، ولكن ما إن نزل الجيش بدباباته إلى الشارع حتى ظهر كقوة جديدة quot;حاميةquot; لشباب الثورة، وقبلهم نزل الإخوان إلى الشارع بعد تيقنهم من نجاح الثورة، ثم ظهرت الآن قوة جديدة فى الأفق وهى قوة السلفيين الذين علا نجمهم بعد إفراج المجلس العسكرى عن عبود الزمر. فنحن الآن أمام ثلاث قوى متصارعة:
(1) الجيش وهو أقوى قوة فى الساحة (منذ 1952 وحتى الآن) فهو يأمر وينهى ويصدر قرارات لها قوة القانون، وتأتمر بأمره حكومة الدكتور عصام شرف.
(2) شباب الثورة فقدوا كثيرا من قوتهم وذلك لإصرارهم على التظاهر وعلى ميدان التحرير وعلى بث روح الإنتقام بدلا من روح البناء وبدلا من إنتشارهم فى القرى والأقاليم لتوعية باقي أفراد الشعب وتدريبه على أخلاق ميدان التحرير، وأخشى أن شباب الثورة يختزل الآن ثورته فى ميدان التحرير، بينما يسرقها منه الآخرون فى القرى والنجوع والعشوائيات، ويختلقون أعداء للثورة (الثورة المضادة) وبدوا لى كمن يحارب طواحين الهواء بينما الخطر الحقيقى ينتشر فى كل أرجاء مصر بإستثناء ميدان التحرير، وعلى رأى صديقى العزيز الذى قال: quot;المغول على الأبواب ونحن نناقش كل تفتوفة فى الدستورquot;!.
(3) الأخوان والسلفيون، وكثير من الناس يضعون الأخوان والسلفيين فى سلة واحدة، ولكنى بالرغم من أنى أؤمن بأن كلاهما ربما يتفق على الهدف إلا أن هناك إختلافا بينا فى الوسيلة، والإخوان ركبوا الثورة بعد تأكدهم من نجاحها وسعوا فى منتصف الثورة لأخذ بعض المكتسبات نظير حلول وسط ولكن إصرار الثوار كان أقوى من الحلول الوسط، وبدأ الأخوان من خلال تنظيماتهم المنتشرة وقدراتهم المالية الواسعة محاولات للسيطرة على الشارع وظهرت قوتهم التنظيمية والسياسية فى أثناء الإستفتاء على التعديل الدستورى، وإنضم إليهم السلفيون الذين إستخدموا أساليبهم العنيفة وتصريحاتهم الأعنف وبدأوا بعد quot;غزوة الصناديقquot; فى الإستيلاء على المساجد وهدم الأضرحة وقطع الأذن والقتل لتارك الصلاة وتهديد بخطف غير المحجبات ومهاجمة المقاهى ومحلات بيع البيرة، حدث هذا كله فى القرى فى غياب كامل لكل القوى الأخرى فى المجتمع بما فيها قوة الشرطة، وشعر الأخوان بأن السلفيين ربما يسرقون منهم الكاميرا لأن أحداث العنف دائما ما تسرق الإنتباه.
وهناك قوى أخرى لا تظهر على الساحة ولكنها موجودة:
(1) قوة الشرطة والتى نرجو ألا يغيب إختفاؤها كثيرا وأن ترجع حامية للشعب وفى خدمته، لأنه بدون وجود الشرطة فى الشارع وفى كل مكان فقل على مصر السلام، وإذا كنت مازلت تهاجم الشرطة فأرجو ألا يوقفك أحد فى الطريق ليسرق محفظتك أو موبايلك أو حتى سيارتك لكى تؤمن بأهمية الشرطة التى ظلمت كثيرا فى تلك الثورة بحق أحيانا وبدون حق فى معظم الأحيان.
(2) الأغلبية الصامتة ، بالرغم من التفاعل الكبير مع أحداث الثورة ومع إستفتاء تعديل الدستور من جانب الشعب المصرى، إلا أن هناك 23 مليون مصرى كان من حقهم الإستفتاء ولكنهم فضلوا عدم الذهاب، إما لأنهم يعملون فى الخارج وهذا رقم قد يصل إلى أربعة ملايين، وإما لأنهم ما حبوش يقفوا فى طوابير لمدة ساعتين، أو لأنهم مش غاويين سياسة ووجع دماغ.
(3) المستفيدون من النظام السابق من حزب وطنى وخلافه، أعتقد أنهم لا يزالون quot;لابدون فى الدرةquot; ولكننا لايمكن أن نحرمهم من ممارسة حقوقهم السياسية بدون محاكمة ونرفض تماما أى محاكمات صورية أو شعبية أو ثورية أو شكلية أو حتى عسكرية، لا نريد سوى المحاكم العادية وبتهم حقيقية وليست تهم صورية.
... فلمن تكون الغلبة من القوى المذكورة إعلاه، أنا أتمنى أن تكون الغلبة للعقل أيا كان، ولكن هل يمكن أن يكون هناك تفاهم بين تلك القوى وبعضها البعض تضمن إستخدام الحد الأدنى من العقل؟ ونبذ العنف ونبذ الإكراه ونبذ التخوين ونبذ التفكير التآمرى، وبدأ البناء والعمل لأننا فى النهاية كلنا مصريون (على ما أعتقد)!!
[email protected]