بحثا عن quot;لقمة العيشquot; وفرصة حياة أفضل، ترك آلاف الخدم أولادهم وأسرهم دون أن يعلموا أنها ربما تكون المرة الأخيرة التي يرون فيها وجه الأحبة.. تغربوا عن بلدانهم وتحملوا قسوة الحياة ليوفروا لأنفسهم وأهلهم الحد الأدنى من الحياة الكريمة، ولم يخطر في بالهم أنهم يكتبون الفصل الأخير في مسرحية هزلية عاشوها ما بين فقر موجع وأمل بعيد المنال.. فمن يعزي طفلا صغيرا ينتظر أمه لتحضر له ملابس العيد أو مصروفات المدرسة؟ ومن يشعر به حين يستقبلها جثة هامدة لا يمكنها أن تلمسه بحنان أو تُقبله بلهفة، فيقضي بقية حياته في مراسم عزاء لا تنتهي؟!

بين الحين والآخر نسمع ونقرأ عن خادمة ألقت بنفسها من النافذة، أو أشعلت في نفسها النار، أو أنهت حياتها شنقاً.. حالات متكررة من الانتحار والتخلص من جسد لم يعد يقوى على تحمل عذابات الحياة.. كارثة إنسانية تثير علامات استفهام كثيرة، وتلقي على كاهل أطراف عدة مسئولية يصعب التنصل منها، فلماذا تسوّد الدنيا فجأة في وجوه بعض الخادمات ويختفي أي بريق أمل فيخترن الموت مصيرا لهن دون أن يفكرن في أسرهن وأولادهن؟! إنها قضية تتشابك فيها أسباب عدة، منها:

# عنف وإساءة:
بعيدا عن الكلام المثالي المتعلق بمعاملة الخدم، فإن بعض الأُسر يعتبرون الخادمة مثل قطعة الأثاث أو أقل قيمة، بدءا من إهمال مشاعرها إلى الإيذاء الجنسي، مرورا بكل أشكال العنف والإساءة والحرمان من الأكل والنوم وحق السفر أو حتى الخروج من المنزل خوفا من هروبها، دون مراعاة لكونها امرأة أو فتاة حرمت من حقها في ممارسة الحياة بشكل حر وطبيعي نتيجة ظروف عملها، بل وحرمت من إشباع رغباتها الجنسية لفترة طويلة، فهي إما بعيدة عن زوجها أو غير متزوجة، ما يجعل الانتحار فكرة واردة بقوة في ذهنها خلاصا من واقع مشوه أُجبرت عليه، خصوصا في حال تأكدها من عدم وجود مؤسسة ما تأخذ لها حقها وتدافع عنها وتحاسب المعتدي أيا كانت مكانته الاجتماعية.

# مشكلات أسرية:
على الجانب الآخر، تعاني بعض الخادمات مشكلات مع أسرتها في بلدها الأصلي، فمثلا اشتكت لي إحداهن أنها ترسل كل راتبها تقريبا لزوجها حتى يصرف على البيت والأولاد، لكنها فوجئت بأنه ينفقه على شراء الخمر ورغباته الخاصة ويهمل احتياجات أولاده ما يجعلها تعيش حزينة وقلقة دائما على مستقبل أطفالها.. وأخرى ادخرت مبلغا من المال وأثناء أجازتها السنوية اشترت بيتا لبناتها وتركت لهم قطعا صغيرة من الذهب كتأمين في حال زواجهن، وبعد عودتها باع الأب البيت والذهب وتزوج من أخرى، فانهارت وكادت أن تقتل نفسها لولا أن الأسرة التي تكفلها تنبهت لذلك وحاولت تهدءتها ووعدتها بتعويضها ماديا بمرور الوقت.. وثالثة فقدت ابنها الوحيد الذي لم تره منذ ثلاث سنوات، فدخلت في غيبوبة لأكثر من شهر، وحين أفاقت رفضت الطعام والشراب وطلبت العودة نهائيا إلى بلدها.. مثل هذه الضغوط وغيرها، قد لا تحتملها الأخريات، خصوصا إذا كانت ظروفهن تمنعهن من العودة لبلدانهم، وفي الوقت نفسه يصعب عليهن التأقلم مع الوضع هنا، فيلجأن إلى الانتحار كحل أخير يريحها من مرارة الغربة هنا وكآبة الواقع هناك.

# مرض نفسي:

نحن كأفراد ومؤسسات لا نولي اهتماما كبيرا للجانب النفسي في حياتنا، وبالتالي حين نستقدم خادمة لا يعنينا منذ البداية التأكد من صحتها النفسية مثلما نحرص على التأكد من خلوها من الأمراض الجسمانية المعدية والمزمنة، ولأننا نفتقد للثقافة النفسية نكتفي بأن يكون الجسد سليما ظاهريا بينما النفس قد يكون لديها استعداد قوي للمرض، أو مريضة بالفعل بأمراض بعينها مثل الوسواس القهري أو الاكتئاب أو القلق، ونتغاضى بكل أسف عما تمثله تلك الأمراض من خطورة على أولادنا وطريقة معاملة الخادمة لهم. بل حين تظهر عليها بعض الأعراض أو السلوكيات الغريبة، لا نلتفت إليها أو نلقي لها بالا، وقد نكتفي بتعنيفها أو ضربها أو إعادتها إلى المكتب والتخلص منها أو تركها لمصير مجهول!

# نقص التأهيل المهني:
من ناحية أخرى، تفتقد معظم الخادمات للتأهيل المهني والاجتماعي والنفسي الذي يمكنها من التعامل مع أسرة ومجتمع وثقافة مختلفة، خصوصا أن كثيرات منهن يعملن كخادمات للمرة الأولى دون أي تمهيد أو مساعدة على التكيف مع الحياة الجديدة، فينطبق عليهن المثل القائل: quot;من الدار للنارquot; وهذا يجعلهن أكثر توتراً وقلقاً وخوفا من المستقبل، وقد تخطأ الخادمة كثيرا نظراً لأنها لا تفهم طبيعة العمل ولا طبائع الأسرة التي انتقلت إليها، خصوصا إذا كان مطلوب منها أن تنجز أكبر عمل ممكن في أقل وقت دون أن تشتكي أو تتذمر أو ترفض.. ودون أن يتم توجيهها بطريقة صحيحة في أغلب الأوقات!

# صغيرة السن:
يزداد الأمر سوءا حين تتسم الخادمة بشخصية ضعيفة أو تكون صغيرة السن وقليلة الخبرة بالحياة، حيث يصعب عليها تحمل إحباطات الواقع وضغوط العمل وبالتالي فإن أي مشكلة صغيرة أو إحباط بسيط، سيؤثر عليها سلبا ولا يمكنها التعامل معه بصلابة نفسية، فتكون النتيجة التخلص من حياتها كنوع من الراحة الوهمية.

# اضطراب:
قد ترتكب الخادمة بعض السلوكيات المضطربة، مثل سرقة مخدومتها، أو إيذاء الأطفال أو قتلهم، أو التورط في قضايا إجرامية أو علاقة جنسية والتي غالبا ما ينتج عنها حمل غير مشروع ويتخلى عنها شريكها، أو غيرها من التصرفات التي تخشى افتضاحها أو العقاب عليها، فتلجأ للانتحار وتنهي حياتها بنفسها.

# شمعة في الظلام:
مازالت أمامنا فرصة للحد من هذه الكارثة وإشعال شمعة أمل في ظلام واقع مؤلم يجعل من الروح شيئا رخيصا أمام المعاناة اليومية، وذلك بالالتفات إلى بعض الأمور المهمة، مثل:
bull;يجب أن يُدرج الفحص النفسي ضمن باقي الفحوصات الطبية كشرط أساسي في جلب الخدم، وأن يكون هذا الفحص دورياً، أو في حالة الاحتياج إليه أو الشك في وجود أعراض مرضية، فالخادمة وإن بدت مهمتها سهلة أو عملها بسيطا إلا أنه على درجة عالية من الأهمية، فهي تؤتمن على أسرة وأطفال فإن لم تكن تتمتع بالقدرة على الاحتواء وإدارة الذات والحياة، والتعامل مع الضغوط والإحباط اليومي، فإن النتيجة ستكون غير مضمونة وتخضع للحظ فقط، وإن لم تؤذ الخادمة نفسها فقد تقضي على حياة الأطفال الذين ترعاهم.

bull;وجود جهة مختصة أو مؤسسة رقابية مسئولة عن متابعة الخدم والإنصات إلى مشكلاتهم ومحاولة حلها بجدية وأمانة، وأن يكون لديها من الصلاحيات ما يمكنها من محاسبة الكفيل دون الاعتبار لأي شيء آخر، ففي النهاية أمنهم وأمانهم من أمن الأسرة والحفاظ عليها.

bull;أن تقوم وزارة الداخلية بتوفير خط ساخن معلن عن رقمه للجميع، ومستعد طوال اليوم لاستقبال أي شكاوى أو إبلاغ عن حالات إساءة أو مرض أو موقف خطر يتعرض له الخدم.

bull;أن تقوم الجهات المختصة بمشاركة علماء النفس والاجتماع بعقد دورات تأهيلية لكل من الخادمات والأُسر الكفيلة على السواء، ومحاولة شرح دور كل منهما وطرق التعامل وكيفية مواجهة المواقف الصعبة، والتكيف مع الحياة الجديدة، وعقد نوع من التعاقد النفسي والتفاهم الفكري فيما بينهما.

bull;إن ما يتعرض له الأطفال من إيذاء من قِبل الخدم أو ما يتعرض له الخدم أنفسهم ينعكس سلبا على الأسرة الكفيلة، يجعلنا ندور في حلقة مفرغة، لا يمكننا الخروج منها والحد من سلبيات الاعتماد على الخدم كجزء أساسي من الحياة، إلا إذا كنا جادين حقيقة في تفعيل كل المقترحات الإيجابية، وتشجيع رجال الأعمال والقطاع الأهلي بجانب المؤسسات الحكومية على أخذ خطوات فعلية وسريعة في اتجاه احتواء أزمتهم والإحساس بمشكلاتهم والحد من معاناتهم ورفع إحساسهم بالأمان، لا من باب التفضل عليهم أو الشعور بأن ذلك عبئا ثقيلا علينا، وإنما من باب الضرورة التي فرضها واقع مزرٍ ونتائج مخيفة.

bull;للإعلام دور مهم في القيام بحملات توعية وبث روح الاطمئنان لديهم، كذلك توعية الأُسر وتقديم النصائح والإرشادات والبرامج الإنسانية وتنمية المهارات الحياتية والاجتماعية بطريقة جذابة ومتعاطفة مع الطرفين. بالإضافة إلى الاهتمام بالوازع الديني وتنمية الجانب الروحي باعتباره دافع إيجابي نحو معاملة الآخرين، خصوصا الضعفاء، بأسلوب إنساني.. وأيضا نحو تحمل إحباطات الواقع ومشكلات الحياة.

د. رضوى فرغلي

مُعالجة نفسية