لا يحتاج المرء إلى قراءة ثانية لخطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما الأخير ليدرك أنه مجموعة ملصقات انتخابية ملونة فيها كثير من البراعة الأمريكية في فنون الدعاية المعدة للاستهلاك الداخلي، والكثير جدا، في الوقت نفسه، من العجز عن إقناع الجماهير العربية الملذوعة والمجروحة والمأزومة، بالمنطق الأمركي الجديد. فالذي يدُه في النار ليس كالذي يدُه في الماء.

أوباما أرادنا، في خطابه الأخير، أن نصدق أنه يستطيع إلغاء سياسات الولايات المتحدة المتوارثة من أكثر من قرن، والمدموغة بالانتهازية والمصلحية التي تجعلها دائما تتحالف مع (النافع القوي) وتقويه وتحمي نظامه من الأخطار، حتى لو كان وحشا كاسرا، وتقف بالضد من كل شعب مستكين وضعيف، حتى لو كان جميع ملايينه ملائكة رحمة وفضيلة وسلام.

أراد أوباما إقناعنا بأن سياسة أمريكا الجديدة ستكون، من الآن فصاعدا، منصفة وعادلة في القضية العربية الإسرائيلية، وداعمة لقوى الحرية والديمقراطية في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا وإيران. يعني أنها سوف تتوقف، نهائيا وقطعيا، عن دعم أنظمة الحكم العربية الحالية التي شاخ أغلبها وهرم، والتي لا يمكن وصفها، جميعا، بأكثر من مزارع مُقفلة لأسر وعوائل وعشائر وطوائف لا شغل لها بالوطن والمواطن، لا من قريب ولا من بعيد.

وليس غريبا ولا عجيبا، وقد فوجيء بطوفان الجماهير بقيادة شباب متحضرين، متنورين، مسالمين، غير سلفيين، ولا إرهابيين، أن يبدأ بالتملص من التزام إدارته بحماية الحكام الذاهبين، وأن يمد يديه الاثنتين للحكام الجدد القادمين.

والعدل يقضي بأن نشكره على الخبر السعيد الذي زفه لنا في خطابه، والذي أكد فيه، وكرر، أنه قرر انتهاج سياسة جديدة في الشرق الأوسط تقوم على أساس الجلوس على التل، والاكتفاء بالمراقبة وانتظار نتائج معارك المصير العربية بين دبابات حلفائه المحاصرين وبين الجماهير الهاتفة بـ (سقوطهم)، واعدا بأن يكون، هو وإدارته وأمريكا الجديدة كلُها، مع الأكثر صبرا على المكاسرة، والأشد قوة وعزيمة، ومع الرابح في نهاية المخاض. ففي هذا كسبٌ كبير جدا لقضية الحرية العربية، ولجماهيرنا الثائرة التي ستنتصر حتما في النهاية، مادامت أمريكا أوقفت انحيازها إلى القاتل ضد المقتول، وإلى السارق ضد المسروق، وإلى الظالم ضد المظلوم.

لا اعتراض لأحد على خطابه المثير، إلا على ما قاله عن العراق، فقد جانبه الحق وفارقه الصواب. قال:
quot; في العراق، نحن نرى تباشير ديمقراطية متعددة الأعراق والطوائف. لقد رفض العراقيون ويلات العنف السياسي لصالح العملية الديمقراطية، حتى في تحملهم كامل المسؤولية عن أمنهم. وبالطبع سوف يتعرضون لنكسات شأنُهم شأن ُ كل الديمقراطيات الجديدة. لكن العراق يتهيأ للعب دور رئيسي في المنطقة، إذا ما استمر في تقدمه السلمي. وإذ يقومون بذلك فإننا سوف نفخر بالوقوف بجانبهم كشريك صامدquot;
عن أي عراق يتحدث مثل هذا الحديث؟

ألم يستمع إلى هتافات الملايين من العراقيين الذين ينادون في بغداد وكل مدن العراق وقراه، كل جمعة، بسقوط الطائفية والطائفيين والعنصرية والعنصريين والفساد والفاسدين؟
ألم يبلغه أنهم ضد هيمنة الأحزاب الدينية المتخلفة التي أخذت العراق معها إلى الوراء عشرات السنين؟

ألم يخبره أحد بأن قادة الديمقراطية العراقية الجديدة منعوا الموسيقى والغناء وأغلقوا النوادي وومنعوا الزغاريد في حفلات الخطوبة والزواج باعتبارها رجسا من عمل الشيطان؟
ألا يعلم بأن لدولة الولي الفقيه في العراق الديمقراطي جيوشا ظاهرة وخافية تقرر متى ينام الناس ومتى يفيقون، كيف يقفون ويقعدون، ماذا يلبسون ويشربون ويأكلون؟
ألم يعلم بأن سجون حليفه المالكي السرية والعلنية لا تضم متهمين بالإرهاب فقط، كما يقول لكم معاونوه، بل إن فيهم كثيرين من ضحايا التمييز الطائفي والعنصري والديني والعقائدي الذي يُعتبر جرائم بحق الإنسانية لا تقل عن جرائم القذافي وعلي عبد الله صالح وبشار؟

ألم يقرأ هذا الخبر:
quot; أعلنت هيئة النزاهة العراقية ان قيمة الفساد المالي الذي شهده العراق قد تجاوزت العام الحالي المليار دولار، وقالت انه تمت خلال 2010 محاكمة 873 مسؤولا بُرئ منهم 165 فيما أدين 709 بينهم 75 بدرجة مدير عام فأعلى، و9 بدرجة وزير. واوضحت وجود 1437 مطلوبا بفساد حاليا، مؤكدة ان هذا الفساد يشكل مشكلة كبيرة في البلاد. واشتكت من تدخلات سياسية تعيق عمل الهيئة وانجازها لمهامها في مكافحته. quot; واعترف رئيس هيئة النزاهة أمام مجلس النواب بوجود ضغوط سياسية على عمل الهيئة تعيق انجاز مهماتها لمعالجة المشكلةquot;.

هل يعقل أن يكون الرئيس أوباما يجهل أن الوضع القائم حاليا في العراق ليس نظاما ولا حكومة، بل هو شراكة لئيمة ٌفاسدة بين مجموعة من الشطار والعيارين محترفي قسمة الوظائف والصفقات والعمولات والمليشيات وتزوير الشهادات؟.
ألا يعلم الرئيس أوباما بأن لكل طائفة ولكل قومية ولكل دين في النظام العراقي الجديد نصيبا يحدد حجمَه ومقدارَه الطرفُ الأقوى في المحاصصة؟.

ألا يعرف أن محتكري حصص الطوائف والقوميات والأديان والقبائل متسلطون على طوائفهم وقومياتهم وأديانهم، وخاطفون محترفون لحقوقها وأحلامها المصادرة؟
يقولون إنهم جاؤا بانتخابات (ديمقراطية). حسنا. فهل يصدق السيد الرئيس نزاهة تلك الانتخابات؟ ومع افتراض نزاهتها، هل احترم حلفاؤه نتائجها؟ أم إن المسألة كانت وما تزال وستبقى مسألة قوي وضعيف؟

ألم يشهد كيف تعلق نوري المالكي بكرسي الرئاسة، بيديه ورجليه وأسنانه، وقمَع منافسيه، وأجبرهم، بقوة أمريكا وإيران، على الرضوخ له بعد ثمانية شهور من المناكفات والمساجلات والمشاتمات والمخالفات؟

ألم يسمع بأن في ديمقراطية العراق الجديد رؤساءَ كتل ومنظمات، شطبهم المالكي وحلفاؤها في الائتلاف الوطني من قوائم الترشيح للانتخابات الأخيرة، باعتبارهم بعثيين مدانين، قانونيا، بأن أيديهم ملطخة بدماء العراقيين، ثم أعادهم المالكي نوابا لرئيس الوزراء ووزراء وسفراء ورؤساء كتل في البرلمان؟؟
ألا يعلم السيد الرئيس بأن (ديمقراطية) العراق الجديد تضم أربعين نائبا في البرلمان تابعين لمقتدى الصدر الذي تقول أمريكا إن تياره إرهابي، وإنه ذيل إيراني مخرب، وإن في عنقه وأعناق مجاهديه دماءَ عراقيين أبرياء عديدين قتلهم أو اختطفهم على الهوية؟

ألا يتذكر كيف حمل عليهم المالكي في البصرة، حتى ظننا أنه يحترم سلطة القانون، قولا وعملا، وينوي تخليص الناس من شرورهم وتجاوزاتهم وتعدياتهم؟؟.
ثم ألا يتذكر الرئيس أوباما أن المالكي عاد، حين حكمت الحاجة، فرضي عن مقتدى وعن جيوشه، وأطلق سراح المُدانين منهم من قبل القضاء (المستقل جدا)، مقابل دعمه في معركة الكراسي، على حساب العدالة والشرع وسلطة القانون؟.

ألم يبلغ الرئيس أوباما أن المالكي سامح مزوري الشهادات، وخاصة مَن هم قياديون وأعضاء في حزبه (الديمقراطي)، وأمر بمسامحتهم وعدم استرداد الأموال التي سرقوها من الخزينة بتلك الشهادات؟

ولكي تكون الصورة أكثر وضوحا، ألا يقر الرئيس أوباما بأن حلفاءه المتحاصصين الديمقراطيين جعلوا العراق ساحة مفتوحة تتصارع عليها دول الجوار، دون حياء؟.
ما لم يكن يحدث في العراق، من أيام فيصل الأول وحتى نهاية زمن صدام حسين، يحدث اليوم في ظل زعماء العراق الديمقراطي الجديد.
فحين عجزوا عن الاتفاق على القسمة في بغداد، ساقهم السفير الأمريكي سوقا إلى أربيل، ليقتسموا فيها على طاولة مسعود البرزاني المستديرة، دون شروط.
وعلى تلك المائدة صار الحزب الذي سقط في الانتخابات ولم يمنحه شعبه مقعدا واحدا شريكا في حكومة (الشراكة الوطنية)، وحصل على وزارة أو على وزارات يملؤها رئيسُه بمن يريد تنفيعه من رعاياه، حتى لو كان حمارا بأذنين.

أما الانتخابات، وأما المعارك التي دارت حول نتائجها، وأما إعادة فرز أصواتها، مرة ومرتين، وأما الاحتيال عليها بالتحالفات اللاحقة التي باركها القضاءُ المستقل، فلم يعد أحد منهم يتذكرها أو يود الحديث عن أخبارها؟
فهل هذه هي الديمقراطية التي يتوقع الرئيس أوباما أن يلعب بها عراق الموائد المستديرة دورا رئيسيا في المنطقة؟؟
فلأية ديمقراطية وأصحابها كلُ هذا المديح؟

أيها الرئيس أوباما، في موضوع العراق لم تتغير أمريكا عما كان، مع السارق ضد المسروق، ومع القاتل ضد المقتول، ومع الظالم ضد المظلوم، فهل هو قصور في الرؤية أم نفاق؟؟ متى تعدلون؟؟