من الواضح ان التدخل العسكري الأميركي في العراق وأفغانستان، كلف الولايات المتحده الكثير من الاموال والانفس والسمعة الدولية دون نتيجة واضحة المعالم، في الوقت الذي نجحت فيه منظمات ثانويه وغير معروفة تماما، تابعة لمؤسسات مساهمه في صنع القرار في امريكا كمثل المعهد الجمهوري الدولي والمعهد الديموقراطي الوطني، بالاستفاده من وسائل الاتصال الحديثه ومن خلال تكوين مجاميع صغيره للشباب والطلبه وبهدف تحقيق نوع من التغيير نحو الافضل عن طريق المظاهرات والاحتجاجات السلميه، نجحت هذه المؤسسات وبامكانيات محدوده جدا قياسا بما صرفته المؤسسه العسكريه، فيما يمكن تسميته تثوير الشارع العربي، او على الاقل الاستفاده من ثورته وركوب الموجه، الى الحد الذي أدى فيه حادثه صغيرة، كحادثة المرحوم البوالعزيزي في تونس الى تفجير الوضع القائم وسقوط نظامين من اعتى وارسخ الانظمه واقربها الى الولايات المتحده واكثرها تمثيلا لمصالحها في عموم المنطقه.

صحيح ان الانظمه الرسميه العربيه، المتسلطه منذ عقود على مقادير شعوبها، صنعت وخلقت كل المقدمات اللازمه والضروف الملائمه للانفجار الحالي، من تعسف وظلم وتفاوت طبقي وتخلف حضاري واقتصادي وانظمه مخابراتيه دكتاتوريه متعفنه، ولكن كل هذا كان موجودا قبل ان تصفع الشرطيه فاديه حمدي المرحوم البوعزيزي الذي اشعل النار في نفسه فالتهمت نيرانه نظامين والبقيه تنتظر دورها برعب، وبمباركه وتأييد امريكا، لما تحب ان تسميه التغيير الديموقراطي والدفاع عن حقوق الانسان!

مايثير التساؤل، لا من منطلق نظرية المؤامره، هو ليس الانتفاضه الشعبيه العارمه، فأسبابها معروفه وهي في كل الاحوال خطوه جباره نحو الامام، نحو عبور حاجز الخوف والسير قدما في طريق الاصلاح والتغيير نحو الافضل، ولكن في الكيل بمكيالين والانتقائيه الواضحه في السلوك الغربي عموما والامريكي خصوصا، ففي الوقت الذي تشن فيه حربا حقيقيه ضد ليبيا، تقف شبه صامته عما يجري في الجزائر والمغرب، وفي الوقت الذي تتصاعد فيه وتيرة التأييد للمتظاهرين في سوريا وتقر عقوبات ضد رموز السلطه، تصمت او تبدي تأييدا خافتا خجولا، امام ما يجري في اليمن والعراق واقليم كردستان.

هذه الدول وحرصها على حقوق الانسان اين كانت عندما هبت رياح التغيير والثورة الخضراء في ايران؟ واين كانت مزاعمهم الحاليه عن التغيير السلمي الديموقراطي واسقاط الانظمة الدكتاتوريه؟ كيف هبط هذا الموقف الانساني النبيل فجأة على صناع القرار الغربيين والامريكان واصبحوا المدافعين الامناء عن شعوب المنطقه التي استنزفوها حتى الرمق الاخير ولم ينسوا قط ضمان مصالحهم بكل الوسائل الممكنه ايا كانت؟

ألا يدعوا الامر الى التساؤل حول حقيقة هذا الموقف الانتقائي والجديد وما مدى ارتباطه بالازمة الاقتصاديه الخانقه، التي تعصف بالغرب وامريكا، إذ ستكون النتائج كما في التجربة العراقيه، تدمير كل شيء وإعادة بناء كل شيء من جديد بما فيها كل البنى التحتيه الحاليه، مما سيعيد الحياة الى الاف المؤسسات الاقتصاديه والشركات والمصارف والمصانع التي تعلن افلاسها باستمرار.

اليس من الوارد ان يكون سبب هذا الحنين الفجائي لاحترام حقوق الانسان، هو إعادة تقسيم وتوزيع مناطق نفوذ القوى العظمى المتنفذه في عالمنا اليوم، فالخليج للامريكان والمغرب العربي وسوريا ولبنان للأوربيين وفق معادلات جديده لمواجهة ما يسمى بالارهاب العالمي من جهه ولاستحقاقات المستقبل من جهه اخرى مع بروز قوى عظمى وليده واقتصاديات قويه على المسرح العالمي، وعن طريق ركوب موجه الانتفاضات الشعبيه ومن ثم تغيير مسارها بعد ان تعمل على بروز القوى الاقرب اليها، فمن الواضح حاليا هو اعتماد امريكا والغرب العلمانيين، او على الاقل محاولتهما الاعتماد على ما يمكن تسميته بالاسلام المعتدل، ويبدوا هذا جليا في بروز تيارات متعدده من هذا الاتجاه كقوى اساسيه في مواجهة الانظمه الدكتاتوريه وبدعم اقليمي واضح من تركيا على سبيل المثال التي تميز جيدا بين الخطوط الحمر والخضر في تعاملها الداخلي والخارجي ولا تشكل أي خطر متوقع على مصالح الغرب ان لم تكن ضامنه لهذه المصالح.

ان وصول الاسلاميين السنه الى سدة الحكم، يعني فيما يعنيه، مع إعادة اكتشاف الغرب للعداء التأريخي العبثي بين السنه والشيعه من خلال تجربتهم العراقيه، بداية لانشغال العالم الاسلامي بالحروب الدينيه وستكون عوائدها خياليه، ابتداء بين المعتدلين والمتطرفين الاصوليين داخليا وقطريا وانتهاء بالحروب الطاحنه مع ايران وممثليها في عموم المنطقة، ولذلك فان الدور المنوط بتركيا والضوء الاخضر الذي تتمتع به حاليا للتدخل في الشأن السوري الشائك،يبدوا وكانه مقدمه لاعدادها لقيادة العالم الاسلامي السني، ربما دولة عثمانية حديثة، خاصة بعد التغيير المتوقع القادم للنظام في السعوديه التي اعتبرها ( الان شوبيه ) المدير السابق لجهاز المخابرات الفرنسي بأنه النظام المغذي للعنف وبلد التطرف والتعصب الاسلامي وفي حضور عدد من كبار المسؤولين والخبراء الغربيين والامريكان الذي لم ينسوا بعد احداث 11 سيبتمبر2001، هذا التغيير المتوقع او الممكن البدء فيه بعد ان تستقر الاوضاع في مصر كبرى الدول العربيه والانتهاء من النظامين السورى واليمني، حيث ستدور الدوائر على أنظمة أخرى.

المؤكد ان المنطقه باسرها تمر بحالة مخاض عسير قد يستغرق عقدا من الزمن واكثر، وان التغييرات القادمه ايا كانت القوى الاجتماعيه الداخليه والدوليه التي تديرها وتسيرها، هي خطوه كبيره نحو الامام، كبيره بكل المقاييس حتى اكثرها تشاؤما، فسقوط الدكتاتوريات وحده سيعزز من فرص تحقيق تغييرات جذريه لصالح شعوب المنطقه إذ سيفرز هذا السقوط قوى اجتماعيه سياسيه جديده على الساحه وليس هناك أي دليل على امكانية ترويضها جميعا وبسهوله، مما يعني مزيدا من الديمقراطيه ومزيدا من الحقوق الانسانيه والمزيد من التقدم للامام.

bull;كاتب عراقي