خطورة ما حصل يوم الجمعة الفائت في ساحة التحرير ببغداد تكمن في انه يشابه ما جرى في بلدان دكتاتورية عربية اخرى. هو نفس السلوك الذي سلكه الجهاز السياسي للانظمة المستبدة في التعاطي مع التظاهرات المعارضة.
في حين ان بلدا كالعراق، حكومته جاءت عبر صناديق الاقتراع مع برلمان منتخب وقضاء يفترض ان يكون مستقلا ودستور وافق عليه الشعب ووجود العشرات من التنظيمات السياسية المعارضة والموالية وادعاءات عريضة بنظام ديمقراطي، مع كل هذا يحصل ما حصل؛ مسيرة موالية للسلطة تعتدي على تظاهرة لمائة او مائتي شخص يطالبون بالاصلاح او بأي مطلب سياسي اخر يندرج ضمن الحقوق الدستورية والطبيعية، هو فعل يندرج ضمن سلوك الانظمة الدكتاتورية وليس الديمقراطية.
ما حصل يكشف عن ان الدستور وصندوق الاقتراع ووجود وزارة حقوق الانسان والتعددية الحزبية لم تمنع قادة العملية السياسية العراقية من ممارسة لعبة الانظمة الدكتاتورية نفسها، وتحريك شريحة من الناس ضد اخرى. واذا افترضنا جدلا صحة ما يقوله البعض من ان ما حصل لم يكن بترتيب من الحكومة او رأس الهرم فيها فإن هذا الافتراض لا يمنع ان نؤشر على صمت اجهزة الامن والجيش الموجودين في مكان التظاهر باعتباره صمتا يكشف عن تشف يمارسه الجهاز المشرف على الامن تجاه المواطنين المعارضين للسلطة.
الوضع الابرز في هذا الحدث السيء الصيت هو استخدام السلطة بعض لابسي quot;العقالquot; لدعم مواقفها ولإضفاء الشرعية على الفعل. فهؤلاء كانوا واجهة اخفت وراءها quot;شقاواتquot; استخدموا العصي لضرب من يخالف الدولة. ان وجود quot;المعقلينquot; كان لاعطاء صورة حسنة لفعل سيء هو الاعتداء على المعارضين السلميين.
هؤلاء المعقلون كانوا وما زالوا جاهزين لعرض بضاعتهم ودعمهم مقابل ثمن يدفع من قبل أي سلطة او حزب او قوة مؤثرة.. حيث اعاد نظام البعث السابق لهذه الشريحة من المجتمع سطوتها ووجودها وتأثيرها لضرب المناوئين له ولممارسة الضغط على من يرفض وجوده، خصوصا في تسعينات القرن الماضي. وتم وضع مرتبات لبعض رجالات العشائر البارزين على اساس درجات quot;الف، باء، جيم...quot; بحسب الولاء له. وطالما صنع ذلك النظام شيوخ عشائر خدمة لاغراضه لدرجة ان الثمن يكون بخسا احيانا حيث تشترى المواقف مقابل عباءة او مسدس... وللانصاف لابد من التأكيد على وجود استثناءات لبعض شيوخ العشائر من اصحاب المواقف المهمة رفضوا الانصياع له وطالبوا بسقوط النظام ما ادى بهم الى الموت الى السجون او الهروب.
تشابه هذه المرحلة الى حد كبير المرحلة السابقة، فكثير من الشيوخ الذين صنعهم نظام البعث مازالوا يحتلون مكانتهم السابقة ومازالت السلطة تتعامل معهم بنفس الطريقة السابقة. فهناك الكثير منهم اشترتهم هذه القائمة الانتخابية او تلك بالاموال، او باشراكهم في الترشيح، او بتوظيف ابنائهم وبناتهم في مناصب مهمة.
هذا السلوك الحالي ليس حكرا على طبقة سياسية دون غيرها، فالجهات السياسية الكبرى في العراق استخدمت العشائر في اكثر من محفل، سواء زعيم القائمة العراقية اياد علاوي ام المجلس الاعلى الاسلامي ام الحزب الدستوري ام جبهة التوافق.. وان كان رئيس الوزراء استخدمها اكثر من غيره، ربما بسبب خلفيته العشائرية.
ومن المؤكد ان quot;المعقلينquot; خصوصا منذ انهيارات الحرب التي مر بها العراق، هم شريحة من المجتمع العراقي، وان الدور الذي لعبوه بالضد من المليشيات جنوب العراق او بالتصدي لتنظيم القاعدة وجماعات الارهاب في الانبار كان مهما جدا. لكن من المهم ان لا يكون هذا على حساب مبادئ بناء دولة مدنية يحكمها القانون الرسمي وليس الاعراف والتقاليد، وعلى حساب مفهوم المواطنة كأساس لبناء شعب. ومثل هذه الامور لن تكون ممكنة التحقق اذا كان للعشائرية كلمة الفصل بين الناس.
ومعالجة ما حصل في ساحة التحرير لا يأتي من خلال تبرئة quot;العقالquot; مما حصل، بل عبر نقد مباشر لهذه الظاهرة العشائرية التي يكون اتساعها دائما على حساب المدنية. لأن التبرئة نوع من الخداع تمارسه بعض القوى في اطار عملية الاستخدام السياسي. فهذه القوى المدافعة ليست ضد العشائرية بل انها ضد ان تدعم العشائر المالكي وتريد تحويل بوصلة الولاء اليها بدلا من المالكي. فليس من مصلحتها المساس او نقد هذا المارد، ما تريده هو تغيير ولائه فقط.
لذلك فان ما نسمعه على الفضائيات او في بيانات الكتل السياسية من تبرئة وتنزيه لـquot;لعقالquot; وكأنه مقدس لا يمكن المساس به هو تعميق وتكريس لدور العشائرية في العراق. صحيح ان هناك رجالا من عقلاء العشائر رفضوا السلوك الاخير، ليس من اجل هدف سياسي ولا دعما لطرف ضد اخر. ولكن هذا لا يخلي ساحة quot;العقال العراقيquot; من ان يكون الكثير من مرتديه عرضة للبيع والشراء.
فمنذ ثورة العشرين والى اليوم كان الكثير من شيوخ العشائر اداة بيد السلطة، فمرة كانوا بيد السلطة الدينية واخرى بيد سلطة الانكليز وثالثة بيد سلطة النظام السياسي او الاحزاب القوية. وهذه الاداة طالما استخدمت لمنع التغييرات والتحولات داخل المجتمع العراقي.
واذا كان فصل الدين عن الدولة شرط مهم لعلمانية الدولة فإن فصل السلوك العشائري عن مؤسسات الحكم واستخدامات الاحزاب هو الضمانة الاكبر لبناء الدولة المدنية في العراق. لأن ذلك السلوك ورمزه المتمثل بالعقال مرتبط بقبلية تتعارض وشروط المواطنة وماضوية تتناقض مع المستقبل وبمعايير لا صلة لها بالقيم الحديثة. فرغم ان العشائر هي احدى اسس ماضي هذا البلد وجانب من حاضره الا ان التغييرات اللازم تحققها في طريق مستقبل اكثر مدنية وتحضر لن تكون ممكنة اذا لم تحاصر العشائرية ويحجم دورها.
وايا كان سبب غضب بعض السياسيين من تظاهرات التحرير معارضة كانت ام موالية، فإنه يبقى مندرجا ضمن الصراع السياسي على زعامة الاكثرية، وطالما استخدم الساسة اساليب تتناقض والشعارات التي يرفعونها ترويجا لانفسهم وخدمة للمكاسب السياسية حصرا.
المهم وما يثير المخاوف في تلك التظاهرات، وتحديدا في التظاهرات الموالية للمالكي، هو الجانب القبلي والعشائري المحتوي على العنف واقصاء الاخر.. لأن ما حصل يكشف عن ان السلطة العراقية تلوح لمعارضيها من المواطنين المدنيين بالعقال الذي استخدم غالبا الى جانب السلطة ضد مجتمع المدينة وحرياته.