نعرف مصطلحات عديدة تبدو متقاربة، أو تنتمي لذات العائلة إن جاز القول، مثل quot;هوجةquot; وquot;عصيانquot; وquot;تمردquot; وquot;انقلابquot; وأخيراً quot;ثورةquot;، ورغم ما يبدو للوهلة الأولى من أن هناك فروقاً نوعية بين تلك المصطلحات أو الحالات المختلفة، إلا أن النظرة المتأملة تكتشف أن الأمر بالأساس هو اختلاف في quot;الكمquot; ومدى شموله لمناحي الحياة الإنسانية لشعب من الشعوب، سواء عن طريق امتداده الأفقي باتساع رقعة وطن، أو الامتداد الرأسي لكافة مناحي وأنشطة الإنسان وثقافته. . فهذا الحجم quot;الكميquot; للحراك هو ما يترتب عليه quot;النوعيةquot; التي يحق لنا أن نصنف بموجبها الحدث محل البحث والدرس، ما بين quot;هوجةquot; لا تلبث أن تخمد مخلفة حداً أدنى من الآثار سلبية كانت أم إيجابية، وصولاً إلى تصنيف quot;ثورةquot;، والتي ينظر إليها كفعل وحالة تغيير شامل وعميق.
هو إذن كم من quot;التغيير بالإمكانquot; مطلوب توافره لإمكان تحقيق حالة quot;ثورةquot;، كتلك التي نتعشمها لمصر، وهو بالطبع ليس quot;كماًquot; عشوائياً، إذ يحتاج لأن يتوزع أفقياً ورأسياً كما أسلفنا، ليشمل سائر مقومات الحياة في الوطن، أو على الأقل يشمل خطوطاً رئيسية، كلما افتقد منها خط كلما انخفضت مقدرة تلك quot;الثورةquot;، وتضاءل العائد المتوقع منها، حتى قد نعدها quot;ثورةquot; عرجاء أو كسيحة، وقد ينتهي الأمر بأن تخرج تماماً من تصنيف quot;ثورةquot;.
لنأت إلى quot;ثورةquot; مصر، ونبحث في توافر مقومات حالة quot;ثورةquot;، وما إذا كانت متوفرة لها، أم أن الأمر لا يعدو quot;هوجةquot; لا تلبث أن تخمد، quot;لتعود ريمة لعادتها القديمةquot; وإن بلباس مختلف، وبشعارات وآمال ليس لها من الواقع ولو ظلاله:
أول مقومات quot;الثورةquot; هم الثوار، نبحث quot;كمquot; هؤلاء عددياً (امتدادهم الأفقي)، وquot;كمquot; عناصر حياتهم المستهدف بالتغيير (الامتداد الرأسي). . رغم ما عرفناه بالمليونيات المشاركة في الثورة، فإن الأمر قد اقتصر على القاهرة وقلة من مدن الوجه البحري، ويكاد صعيد مصر أن يكون غائباً عن هذه الثورة تماماً، أو اكتفى بمتابعتها بفرح أو توجس وقلق عبر شاشات التليفزيون. . نعم الصفوة في كل الشعوب هي من تقود الأغلبية الصامتة أو المنصرفة لشئونها الشخصية، لكن هذا لا ينفي أو يقلل من أهمية التوسع الأفقي للثوار، على الأقل لكي يمثلوا كافة شرائح المجتمع وتوزيعهم الديموجرافي، خاصة إذا ما كان المصير بعد ذلك لابد وأن يرتبط بصندوق الاقتراع، ولسنا بعيدين عن إحباط الاستفتاء على التعديلات الدستورية، والذي يجوز لنا بهامش محدود من الخطأ أن نعتبره استفتاء على الثورة ذاتها، وما إذا كان الشعب بكتلته الجماهيرية مؤيداً لها، أم ينحو للتخلص من الحالة التي أوجدتها بأسرع طريق، ناهيك عن مدى فهم الجماهير وتعاطفها مع أهداف الثورة. . لا يفوتنا هنا التنويه بذكاء المجموعة المتحالفة على quot;لم الدورquot; أو إنهاء حالة quot;الثورةquot;، بتعللها برأي الشعب وشرعية نتائج الاستفتاء على التعديلات، في مواجهة القطاع الأكثر انتماء للثورة، والذي يستهدف خارطة طريق هي الأنسب لتحقيق تغيير حقيقي، على الأقل في معادلة القوى التقليدية طوال الثلاثة عقود الماضية.
المشاركون في الثورة ذاتهم ليسوا فئة واحدة، أو لم يتوحدوا حقيقة حول الشعارات التي رفعتها الثورة، وبالذات شعارات الحرية والكرامة الإنسانية، التي كانت أهم ما نادى به قادة الثورة الحقيقيين. . تصدر الثورة وقادها في البداية من أطلقنا عليهم شباب الفيسبوك، وهم بالحقيقة صفوة الشباب المصري من حيث التأهيل العلمي والمستوى الاجتماعي، ويرتبطون بالثقافة العالمية عبر وسائل الاتصالات، بأكثر مما يرتبطون بالثقافة المحلية التقليدية، وهم الذين طالبوا بالحرية والكرامة الإنسانية، وفهموا شعارات العدالة بطريقة تختلف بالتأكيد عن سواهم، ممن فهموا العدالة على أنها المساواة في تقاسم كعكة الوطن، ما قد ينظر إليه البعض على أنه لن يعدو أن يكون تقاسم الفقر، في غياب لمفهوم عدالة الفرص لبذل الجهد المثمر تحقيقاً للذات وللرفاهية المنشودة. . الأخيرون كانوا جموعاً التحقت بالثورة لنقمتها على تردي الأوضاع الاقتصادية والبطالة، دون أن يتطلعوا لمفاهيم تبدو لهم بعيدة ومفارقة مثل الحرية، وقد ضم هؤلاء بين صفوفهم قطاعاً كبيراً اجتذبته المناداة بسقوط نظام لم نتصور يوماً أننا يمكن أن نتجرأ عليه إلى هذه الدرجة. . كان هؤلاء جميعاً ونجاحهم الجزئي في بداية أيام الثورة، ما دفع القوة الشعبية التقليدية ممثلة في الإخوان المسلمين إلى التخلي عن تقيتها وحرصها، وفك ارتباط الأعدقاء مع النظام، لتسرع بحفظ مكان لها وسط الجماهير الثائرة. . هذا بالطبع علاوة على تواجد المعارضة المباركية، نقصد معارضة عصر مبارك اللطيفة الأنيسة رغم صراخها الذي لا ينقطع، وهي الأقنوم الثالث للنظام مع الحزب الوطني والإخوان المسلمين، لتتصدر رموزها الأزلية الصورة، وكأنها قائدة أو مشاركة في الثورة، رغم أن مساهمتها الحقيقية فيها لا تزيد عن مشاهدة عابر سبيل لوليمة سارع بالاندساس بين المتحلقين حولها!!
كان دخول جماعة الإخوان إلى ميادين الثورة نقطة فاصلة وحاسمة من جانبين، أبسطهما هو المساهمة الفعالة لهذه الجماعة العقائدية المنظمة في حشد الجماهير، وقد أخفت تماماً شعاراتها الدينية، ربما لتجد لنفسها مؤطئ قدم بين جماهير مدنية تتوجس الشر من كل من الحزب الوطني وجماعة الإخوان على حد سواء، فالاثنين رفقاء رحلة الهيمنة والفساد والانتهازية الدينية، وربما استخدمت الجماعة تكتيك التخفي لعدم تحفيز واستعداء كتلة ظلت صامته تترقب، وكان ظهور شعارات الإخوان كفيل باستنفارها لتدافع عن النظام، وفق المعادلة التي اعتمد عليها نظام مبارك في بقائه لثلاثة عقود. . لكن الأخطر الذي ترتب على مشاركة الإخوان في الثورة، هو ظهورهم بعد سقوط الرئيس، أمام من ظلوا طوال تلك السنوات أسرى فزاعة الإخوان، وكأنهم هم قلب الثورة ومحركها، وبالتالي لابد من استرضائهم من قبل كل من ينشد تهدئة الأوضاع، والعودة سريعاً إلى ما أطلقوا عليهم استقرار، فيما هو من منظور الثورة والثوار لا يعني غير إطفاء نيران الثورة، وquot;العودة بخفي حنينquot; أو quot;بخفي مبارك وبعض من أصحابهquot;!!. . هذا الانخداع بقوة الإخوان لم يؤثر فقط في المجلس الأعلى للقوات المسلحة المنوط به تسيير أمور البلاد، بل وقعت في شراكه النخبة التي لم تتقن طوال عهد مبارك سوى الصياح الحنجوري، ورفع شعارات بائدة وظفها النظام باتجاهين، أولهما الإيحاء داخلياً وخارجياً بوجود حرية رأي، تفيد أيضاً في تنفيس الكبت لدى كل من الجماهير والصفوة، والثاني استخدامهم للتدليل أمام الجماهير على تفاهة البديل ومفارقته لمصالح الشعب ومعاناته الحياتية، حين يراهم يجأرون بمفاهيم الستينات الاشتراكية، التي لا يحمل لها الناس في ذاكرتهم غير تفشي الفقر والفشل والهزيمة، أو يهيمون في عوالم العداء العروبي لكل العالم، والحديث عن ضياع الدور الريادي لمصر في المنطقة، في حين أن الدور المصري في قرى ومدن مصر وشوارعها يتضائل إلى حدود غير مسبوقة. . هكذا ونتيجة لإحساس النخبة بتفاهتها وهوان شأنها، وجدناها طوال الفترة الماضية بعد الثورة تمارس سياسة الفزاعة من الإخوان، لتضخم من حقيقة قوتهم، بالمخالفة تماماً لواقع شعبيتهم في الشارع المصري. . ماذا نقول عن هذا غير أنه عجز التافهين؟!
تحدثنا في هذا الجزء من مقومات الثورة عن الثوار في تجربة الثورة المصرية، وهم كما يتضح في سطورنا وعلى أرض الواقع شظايا متنافرة، بل وربما يتبادر إلى الذهن أنهم بحاجة لمن يثور عليهم!!. . هي فقط النواة المكونة ممن سميناهم شباب الفيسبوك، من يستحقون أن يلقبوا بالثوار، بعد ذلك هناك أكثر من 90% quot;من الفطرة خروبquot; كما يقول المثل الشعبي، لتكون أول وأخطر نقطة ضعف في الثورة المصرية هي تشكيلة الثوار ذاتها.
وسوف ننتقل في الجزء التالي من هذه المقاربة إلى مقومات أخرى لازمة لكي تكون هناك quot;ثورةquot;.
مصر- الإسكندرية
[email protected]