في هذه الأيّام العصيبة من تاريخ ليبيا لا بدّ من قراءة الأحداث وتحليلها بشكل موضوعيّ. غير أنّ هذه القراءة تصطدم بصعوبات كبيرة، وذلك لسببين:

السّبب الأوّل هو أنّ الجماهير الثّائرة في أكثر مناطق البلاد تعتقد أنّها على قاب قوسين أو أدنى من النّصر، وعلى الأخصّ في المناطق المحرّرة، وذلك نتيجة للإعلام المناضل الذي يغذّي هذا الحلم الجميل بشحنات عاطفيّة وجرعات حماسيّة، يفتقد المتلقّي بسببها القدرة على رؤية البانوراما العامّة لساحة الصّراع، ولذلك يعتبر أيّ تحليل موضوعيّ للسّاحة اللّيبيّة خذلانا للثّوّار يفتّ في عضدهم، أو على الأقلّ يحمل رسالة متشائمة غير مرغوب فيها في هذه الظّروف الصّعبة.

والسّبب الثّاني هو عدم الوضوح في مواقف الفاعلين في هذا الصّراع. فكلّ واحد منهم يقول شيئا ويقصد أشياء أخرى، وبعضهم لا يملك من السّياسة شيئا بما في ذلك معجم مصطلحاتها، لذلك نجده يخلط الأمور بشكل فيه من العشوائيّة وعدم الانضباط ما يجعل بقيّة الفاعلين في حيرة من أمرهم بسبب عدم فهم خطابه.
لهذه الأسباب، يضحي تحليل الخطابات الظّاهرة عرضة للوقوع في أخطاء جسيمة. لذلك لا بدّ من الغوص في ما بعد الخطابات، أي محاولة فهم المضمر والمسكوت عنه فيها.
غير أنّ المحصّلة العامّة لقراءة مواقف الفاعلين على حلبة الصّراع تتلخّص في أنّها مبنيّة على الأوهام التي بدون انقشاعها والتخلّص من تضليلها لا يمكن رؤية الطّريق الواقعيّ الذي يفضي إلى ضوء في آخر النّفق.

لذلك اخترت لهذا المقال عنوانا قد يبدو استفزازيّا، لكنّه ربّما يلفت الانتباه إلى خطورة السّعي وراء الأوهام والقفز على الحقائق، ممّا لا ينجرّ عنه في النّهاية سوى المزيد من الضّحايا، والمزيد من الشّقاء.
ولذلك فسأحاول أن أسرد الأوهام المختلفة والمتشابكة لكافّة الفاعلين على حلبة الصّراع.

1- أوهام معمّر القذّافي

إنّ معمّر القذّافي الذي حكم ليبيا أربعين سنة ونيّفا يتوهّم أنّه سوف يستمرّ في حكمه حتّى بعد هذه الثّورة، وبعد سقوط هذا الكمّ الهائل من الشّهداء، وكلّ ما استتبع ذلك من تخريب لرأسمال الشّعب المادّيّ والمعنويّ. وهو يبني موقفه على أساس المعطيات الموالية:

1-إنّ النّيتو سيخرج من الصّراع إذا استطاع هو الصّمود لفترة طويلة، وهو يراهن على إمكانيّة تململ الشّعوب التي تشارك حكوماتها في هذه الحملة العسكريّة، وذلك لاعتبارات اقتصاديّة صرف، بسبب الأزمة التي تعصف بهذه الدّول. إذا تمّ ذلك، فهو يرى أنّه سيصبح قادرا على تحريك تحالفاته القديمة، وعلى الأخصّ مع إفريقيا. فيقضي بذلك على الثّورة.
غير أنّ هذا وهم كبير لا تنضجه غير مخيّلة يائسة ومنكرة للواقع في نفس الوقت، لأنّه لم يضع في حسبانه أنّ المجتمع الدّوليّ قد أقرّ بشكل شبه إجماعيّ عدم شرعيّة حكمه بعد الثّورة. كما أنّ القذّافي يتناسى أنّ الأمر لا يقتصر على كونه لم يعد زعيما، بل إنّه أصبح مطلوبا جنائيّا دوليّا كمجرم حرب. ثمّ إنّ انسحاب حلف النّيتو من العمليّة سوف يقوّض هذا الحلف من أساسه وسوف ينهي معه ما تبقّى في السّياسة من أخلاق.

2- يتوهّم القذّافي أنّ إطالة عمر النّزاع المسلّح يصبّ في مصلحة نظامه ويعتبر أنّ شراء الوقت هو محور استراتيجيّته من أجل البقاء، على اعتبار أنّ الوقت سيكون لمصلحته كما في الأزمات السّابقة التي استطاع التّغلّب عليها بفضل الإصرار وشراء الوقت. ومنشأ هذا الوهم هو خطأ تاريخيّ وسياسيّ كبير. فهو لا يريد أن يدرك أنّ كلّ الظّروف الموضوعيّة التي صاحبت الأزمات السّابقة قد تغيّرت بالكامل، ولم تبق إلاّ ذاته الشّخصيّة، لأنّه لم يكن بإمكانه تفكيك كلّ ألغام الماضي، من أزمة لوكربي إلى أزمة الطّائرة الفرنسيّة أو أزمة مقهى لابيل بألمانيا، لو لم يكن يتحكّم في شعبه بشكل صارم في ذلك الوقت. وكان العالم يعتبره على رأس نظام قويّ لا يمكن إجراء أيّ اختراقات في جداره المنيع. كما كان القذّافي أحد بائعي البترول الكبار، يحقّق دخولا ريعيّة كبيرة ينفقها كيفما شاء بدون حسيب ولا رقيب، ممّا يضمن له حلفاء في مشارق الأرض ومغاربها. أمّا اليوم فهو مختف في مكان مجهول، محاصر من شعبه الثّائر، وليس بإمكانه تأمين الوقود حتّى لمركبات حرّاسه، ناهيك عن بيع النّفط والاستئثار بأمواله.

3-الوهم الأخير في جعبة مخيّلة القذّافي هو أن يقبل الغرب بتقسيم ليبيا وأن يستحوذ على الغرب والجنوب اللّبيّين ويضمن بذلك استمرار جماهيريّته. فهو بذلك سيمتلك الّنفط والغاز والماء والثّقل السّكّانيّ، وسوف يصبر على ما حلّ به من استقلال الشّرق حتّى تحين الفرصة المناسبة للانقضاض عليه، وإرجاعه لبيت الطّاعة الجماهيريّ. لكنّ ما أفسد عليه هذا الحلم هو نجاح الثّورة وقوّتها في مصراتة والجبل الغربيّ، فقد أحكم اللّيبيّون هناك السّيطرة على مدنهم وقراهم، وأمّا الزّاوية وزوارة فما زالتا تلعقانه الجراح، وتتحيّنان الفرصة المواتية للانقضاض عليه في طرابلس، طرابس التي قمع ثورتها في أيّامها الأولى ولا زالت تتربّص به الدّوائر وتتحيّن الفرص للانتفاض عليه.
والذي يسمع خطاباته الصّوتيّة المسجّلة وشبه اليوميّة، يدرك أنّ هذا الوهم ما زال يراوده، غير أنّ الأحلام تبقى كذلك برغائبها واضغاثها. تبقى أوهاما ممتنعة عن التّحقّق.

2-أوهام حلف النّاتو

أمّا حلف النّاتو فقد بنى خططه العسكريّة والسّياسيّة والدّبلوماسيّة على وهم كبير مفاده أنّ القذّافي إنسان سويّ سوف يرحل عن الحكم إذا مورست عليه الضّغوط بحيث يوضع أمام حقيقة أن لا امل له في البقاء على رأس السّلطة. وهذا وهم لأنّ القذّافي لن يترك الحكم ولن يرحل أبدا، مهما كان حجم الضّغط الذي مورس أو سيمارس عليه.

غير أنّ وهم حلف النّيتو هذا تتبعه نتيجة أخرى واهمة وهي أنّ القذّافي لن يترك الحكم فحسب بل يمكن أن يطلبوا منه التّوافق على ترتيبات يقوم بها قبل رحيله وهي ترتيبات أمنيّة وسياسيّة تنقذ البلاد من الفتنة والفوضى حتّى لا يحصل فراغ أمنيّ مدمّر وحتّى يتمكّن البلد من الرّجوع إلى وضع طبيعيّ بأقلّ خسائر ممكنة. ومنبع هذا الوهم أنّهم لا يعرفون القذّافي الذي لا يقبل إلاّ بالحكم أو إفناء المحكومين إذا تمرّدوا. وما لا يعلمون أنّه وضع ترسانة من الصّواريخ منذ أمد بعيد على مرتفعات غريانة المطلّة على طرابلس بقصد تدميرها عند إشارته، كما لم يصل إلى أسماعهم أنّه لغّم مئات المركّبات والشّاحنات لإحراق العاصمة في حال اغتياله أو إجباره على الفرار.

إنّ أوهام حلف النّاتو سوف تقود ليبيا إلى أوضاع مرعبة، لأنّ ما يترتّب عنها سيأخذ في دوّامته مستقبل البلاد وكذلك المنطقة برمّتها، وإنّ الحلف نفسه سيكون من أكبر الخاسرين. والنّتيجة المنطقيّة لهذا الوهم عدم تشجيع الثّوّار وحتّى المجلس الانتقاليّ على تأسيس جيش وطنيّ يشرفون على تكوينه وتدريبه وتسليحه حتّى يساعدهم على إسقاط النّظام ويكون الضّمانة الوحيدة لاستقرار البلاد، ويكون حارسا أمينا على الأسلحة والمعدّات التي إذا حدث وتسرّبت فستهدّد أمن ليبيا والمنطقة. كما يكون للدّولة الوليدة بإنشاء هذا الجيش حقّ احتكار القوّة واستعمالها القانونيّ حتّى يتسنّى لها إقامة مؤسّساتها الدّيمقراطيّة دون تغوّل لأيّ قبيلة أو حزب أو طرف على باقي المجتمع ودون الدّخول في دوّامة حرب أهليّة.
إنّ وهم حلف النّيتو هذا سوف يقود أطرافه إلى طرح مبادرات غير ممكنة التّحقّق كسيناريو المزاوجة بين عناصر النّظام والثّوّار في حكومة انتقاليّة يستثنى منها القذّافي وأسرته، وتستطيع أن تنقل الوضع من الحالة الستاتيكيّة الرّاهنة إلى وضع قد يكون مقبولا محلّيّا ودوليّا.
وسوف تكون نتيجة هذه المبادرة وأشباهها الرّفض من قبل القذّافي الذي لن يقبل بأيّ تسوية لا يكون هو طرفا فيها. وفي المحصّلة، ستستمرّ إضاعة الوقت، وقد يضطرّ حلف النّيتو إلى محاولة إنهاء نظام القذّافي بالقوّة العسكريّة على الأرض، بما يترتّب عن ذلك من إشكالات.

3-أوهام المجلس الوطنيّ الانتقاليّ

إنّ المجلس الوطنيّ الانتقاليّ قد تشكّل في ظروف استثنائيّة صعبة، ونتيجة لحالة ضرورة قصوى فرضت نفسها على السّاحة السّياسيّة بعد انتفاضة الثّوّار في المنطقة الشّرقيّة، وتوصّلهم إلى تحرير أكثر أجزاء برقة التّاريخيّة. ولم تكن للثّوّار قيادة سياسيّة، ولم تكن ثمّة أحزاب، لذلك فإنّ الثّورة عندما قامت وجدت فراغا سياسيّا وثقافيّا مدمّرا. فجاء المجلس الانتقاليّ ليحاول ملء الفراغ وتنظيم الحالة المعيشيّة للنّاس، وللدّفاع عن مكتسبات ثورة الشّباب دوليّا وإعطائها زخما كافيا حتّى تستطيع أن تعمّ أنحاء الوطن.

إلاّ أنّ المجلس الانتقاليّ بقي منذ تخلّقه الأوّل على نفس الهيئة، ولم يطوّر آليّاته، ولم يرتق إلى مستوى المسؤوليّة المناطة به على المستوى الوطنيّ أو الدّوليّ. قبع مشلولا في انتظار أن تحسم المعركة دون التدّخّل الإيجابيّ في أحداثها، وكان ولا يزال الوهم المسيطر على هذا المجلس أنّه بالإمكان إسقاط النّظام في أقرب الآجال من خلال حلف النّيتو الذي سيساعد الثّوّار على تحقيق هذا الهدف. وعند سقوط هذا النّظام سيقوم حكم ديمقراطيّ وستعمّ الحرّيّة أرجاء الوطن وكأنّ مكوّنات الشّعب اللّيبيّ تنتمي إلى عالم الملائكة.
فماذا صنع هذا الوهم بأصحابه؟

1-الاعتماد على الكتائب التي تشكّلت بعد ثورة الشّباب، وهي ذات توجّهات إيديولوجيّة إقصائيّة أو قبليّة، وذات نظرة قصير إلى الواقع والمستقبل.
وهذه الكتائب التي لا تدين للمجلس الانتقاليّ بالحكم أو السّيطرة أضحت جزءا من ضعفه بدل أن تكون مكوّنا من عناصر قوّته. وقد حاول أن يطلب لها المعونات التّسليحيّة، لكنّ الدّول الغربيّة رفضت هذه الطّلبات وتجاهلتها. فهذه الدّول لا تسلّح المليشيات، بل تسلّح الجيوش النّظاميّة المنضبطة، وعلى الأخصّ بعد تجربتها في أفغانستان والعراق. بقيت هذه الكتائب إذن بدون تسليح فعليّ يستطيع أن يعطي الفرق الحاسم على أرض المعركة.
وهذا الواقع البائس كان بسبب تشابك الأوهام التي بنى عليها الثّوّار استراتيجيّتهم والأوهام التي يسير على هديها حلف النّيتو.

2- بقي المجلس الوطنيّ حبيس وهم سقوط القذّافي الحتميّ والقدريّ، لذلك لم يقم بأيّ دور رياديّ، ولم يجترح أيّ مبادرة سياسيّة أو دبلوماسيّة واحدة لحلّ الصّراع، وكأنّ دوره يقتصر على رفض المبادرات حتّى قبل الاطّلاع عليها. وحتّى المكاسب السّياسيّة التي تحقّقت باسمه فإنّ دوره كان محدودا فيها، لأنّها كانت بفضل المكتب التّنفيذي بقيادة الدّكتور محمود جبريل ومعاونيه وبعض الدّبلوماسيّين المنشقّين الذين لا يجدون من المجلس غير حالة شدّ إلى الوراء، بفعل تكوينه القبليّ والإيديولوجيّ الذي تناسى إلى حدّ الآن بقيّة مكوّنات الشّعب الليبيّ، في قسمه الرّازح تحت نير النّظام، وكأنّهم غير معنيين إلاّ بتحرّر بنغازي وما حولها. وهذا الانطباع بدأ ينتشر في المناطق الغربيّة والجنوبيّة، ممّا يهدّد فعليّا وحدة البلاد.

إذا كان هذا التّحليل صادرا من قراءة للواقع، فإنّ التّوصيف الوحيد الذي يمكن إطلاقه عليه هو ما جاء في العنوان: أنّ ليبيا لا تزال في مهبّ الأوهام.