نحن على أبواب رمضان والثورة في سوريا تحزم أمرها لانتفاضة يوميا بعد التراويح، وفقيه السلطة يفتي بعدم الصلاة دفعا للفتنة، والناس تترقب جدل التاريخ ..
ألقى جمال الدين الأفغاني محاضرة بعنوان الصناعة في التاريخ حاول فيها أن يقرب مفهوم النبوة وتطورها عبر التاريخ لصناعة الإنسان الجديد؛ فكان مفتي الديار العثمانية أبو الهدى الصيادي له بالمرصاد؛ فأشاع أن الأفغاني يريد أن يجعل من النبوة صناعة بشرية وهي إلهية فهو إلى الإلحاد أقرب!
جن جنون الأفغاني وكان الرجل حاد المزاج بدون وقود مشتعلا لا يحتاج لكبريت كي يشتعل؛ فأقسم على المناظرة مع أبي الهدى الصيادي، وحاولت دائرة السلطان عبد الحميد يومها أن تخمد الوضع بكل سبيل ممكن..
هذا اللقاء لم ينته بالسيف البتار..
ولكن عبد الحميد صاده في قفص ذهبي في الأستانة فمات فيها منفيا بدون نفي بدون أن نعرف تفاصيل نهاية حياته هناك؟
أما في نجد فقد حصلت مواجهة مختلفة بين شيوخ الأزهر وشيوخ الوهابية بعد أن بلغ إبراهيم باشا الدرعية فاتحا فأراد أن يفهم من شيوخ نجد ماذا يعتقدون بأهل مصر من السنة؟
دار اللقاء أياما ثلاثة وإبراهيم باشا يملك غضبه وسيفه، حتى إذا انتهى النقاش إلى لاشيء، توجه بنفسه ليسأل شيوخ الوهابية وكانوا خمسمائة؛ فقال أسألكم بالله كم مساحة الجنة؟
أجابوا بصوت واحد عرضها السموات والأرض!
تابع إبراهيم باشا سؤاله لحراس العقيدة: هل يمكن أن يكون هناك نصيب لمن هو غير وهابي ولو بشجرة واحدة من أشجار الجنة التي لانهاية لغاباتها؟
أجابوا بصوت واحد: لا .. الجنة هي للوهابية ومن اعتنقها فقط! وغيرها هم حصب جهنم لها واردون
احمرت عينا الباشا جمرا، وأمر بقتل الخمسمائة من شيوخ الوهابية ودفنهم في صحن المسجد معا!
وفي دمشق نرى هذه الأيام تحالف مشبوه بين (الفقيه) و(الطاغية) مما يحرك كامل القضية التاريخية في تحليل لماذا يتم مثل هذا التحالف المشبوه وتحت أي ظرف؟
لنأخذ البوطي نموذجا؟
تحدثت مع الأخ عبد الهادي وهو من أهالي مدينة الجديدة في أقصى المغرب عن الدوافع النفسية العميقة لمثل هذا التحالف؟
لعل القرآن يقرب إلينا جدلية هذا التحالف في صورة فرعون والسحرة وهم مثقفو ذلك الوقت وصانعي الرأي العام عند الجمهور؛ فحين واجه موسى الطاغية أرسل فرعون في المدائن حاشرين وقيل للسحرة هل أنتم مجتمعون؟
وبلغ من ثقة فرعون في هزيمة موسى أن لقاء عاما وهزيمة منكرة لموسى سيجعل الناس يتبعون السحرة إن كانوا هم الغالبين؟

سؤال يلح علي لماذا لم يقتل فرعون موسى مباشرة؟
وما معنى أن يرسل في المدائن حاشرين ليجمعوا السحرة في يوم الزينة ما يشبه العيد الكبير أو أيام الاستعراضات؟
نعم هدد فرعون موسى بالسجن إن اتخذ إلها غيره فكان جواب موسى أولو جئتكم بشيء مبين؟
قام موسى باستعراض قوى جديدة لم يعهدها فرعون من قبل من قلب العصا حية وبالعكس، ثم إضاءة يده ببياض ساطع وهو اٍلأسمر!
لم يشأ فرعون أن يستعجل فتظاهر بأنه ديمقراطي يأخذ رأي من حوله مخوفا إياهم بالتهديد؛ أن موسى يرتب لانقلاب عسكري وهو التعبير المكرر في القرآن ( يريد أن يخرجكم من أرضكم).
وهو يذكرني بقصة الحجاج والمرأة الخارجية حين خاطبته فالتفت لمن حوله ماذا يفعل بها؟
فأشاروا عليه بقتلها فورا بدون تردد!
فتأملت القوم والحجاج؛ ثم قالت إن أصحاب فرعون كانوا خيرا من أصحابك!
فسألها وكيف؟
قالت لقد أشار الملأ من فرعون عليه أن يرجئ قتل موسى؛ أما أصحابك فيشيرون عليك بقتلي!
هنا نحن أمام آلة جهنمية للطغيان؛ فالطاغية لا يحكم لوحده بل بعصابة يشاركونه الجريمة وهي ما نراها في أحداث سوريا.
حين يأتي المثقفون ووعاظ السلاطين يطمعون في المال (أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين؟).
فرعون يقول لهم نعم ولكم أكثر من ذلك المنصب (نعم وإنكم إذا لمن المقربين)..
نفهم أن المعلم وصوان وحاج علي وطالب وبثينة والصحاف كلهم موظفون لهم (الأجر) بتعبير القرآن، ولكن أين مكان البوطي هل يتقدم إلى الصف الأول في دعم نظام شمولي دموي مافيوي فاسد لأنه يريد المال؟ أم لأن النظام يعطيه المنصب؟ أم الاثنان معاً؟ أم أن هناك شيء غير هذا وفوق هذا؟
الحقيقة في البوطي ـ والله أعلم بها ـ ولكن خيالي اعتصر بعد جهد صورة مختلفة في تفسير موقفه وانضمامه إلى بنية النظام الشرس الدموي.
البوطي في بلاد الشام وتحت المظلة البعثية وبفعل آلة الانفوميديا انتفخ وتضخم مثل أي ورم لا يحمل العافية.
وحين اصطدم الأسد الأب مع الاتجاه الإسلامي في سوريا قام بحركة ذات عدة مفاصل في تفريغ المحتوى الديني الثوري إلى طقوس؛ فأنشأ معاهد تحفيظ القرآن، التي تطبع نسخا من القرآن ميتة، بقرآن ضد القرآن، وإسلام ضد الإسلام، في محنة ثقافة مزورة بتعبير النيهوم الليبي، كما كان الحال مع معهد النور لسيء الذكر كفتاور مفتي الجمهورية مذكرا بالصيادي مفتي الديار العثمانية، الذي خدم بحرص ومتابعة النظام البعثي من أيام عدنان المالكي قبل وضع البعث يده على السلطة بشكل مطلق حتى نفق الأسد الكبير فتبعه إلى محشره فهما يحشران سوية في فريق واحد.
وكان المفصل الثاني تأميم الفكر الديني إلا من قناة واحدة تحت تصرفه تماما وبوحيه فاصطنع البوطي على عينه في برامجه ودروسه المشيخية وطبع كتبه التي تحنط العقل كما في حقن تصليب العروق عند مريض البلهارسيا، وبين أن تَسْتغِل وتُسْتَغل شعرة.
أما المفصل الثالث فكان في إنشاء ديكورات حزبية لأحزاب بدون أي حزب وتحزب، فوصل إلى تأميم الحياة السياسية بالجملة والمفرق.
وهكذا نشأت الجبهة الوطنية التقدمية التي وصفها للصحفية الأمريكية التي قابلته يوما أن في أمريكا حزبان وفي سوريا تسعة فأيهما أكثر ديمقراطية؟
قالها وهو يبتسم ابتسامة الثعلب الماكر؛ فهو يعرف تماما ما صنعت يداه وابتكرت قريحته الجهنمية..
تبقى معاملة العصاة والمتمردين والطموحين فمن سال لعابه لشهوة دنيئة وفَّرها له، ومن حرص على قبضة دولارات أعطاه إياها، ومن كان عنيدا صلب الرأس والشكيمة مثل رياض الترك تعفن في زنزانة انفرادية سبعة عشر عاما في مدفن تحت ارضي، في الوقت الذي يصرح البوطي أنه وباتصاله بالملائكة وجبريل وميكال أنه رأى ابن الطاغية ـ الذي نفق في حادثة سيارة متهورة في مدخل مطار دمشق وهو يصطدم بصنم أبيه على رواية ـ أنه يطير في الجنة بجناحين من فضة قدروها تقديرا!
يبقى المتمردون الخطيرون فهؤلاء يتم تصفيتهم على التلفون بدون وثائق خطية كما في قصص الجستابو على شاطئ بحيرة برلين في اجتماعهم الشهير.
يضاف إلى ما مر التحالف مع ملالي إيران وهو الذي لا يؤمن بعمة وجبة ولا يتوجه لقبلة إلا صنم الكرسي، وصيام عن كل متعة إلا متعة الكرسي؛ فهي الإلوهية خالصة من دون الناس..
أين البوطي إذن في هذه اللعبة الجهنمية؟
في تقديري نحن هنا أمام أكثر من المال والمركز إنها الهيبة الدينية وغطرسة الفقيه المتعالي!
أنه كان يتوقع أن يأتي شباب الثورة ليقولوا له أفتنا؟ ليقول لهم إن الخروج على الحاكم فتنة! وليهز الشباب رؤوسهم ويقولوا شكرا شيخنا الفضيل، ونحن لفتواكم متبعون، وبحمل الطاغية على ظهرنا مثل البعير إلى يوم القيامة ماضون!
المشكلة في هؤلاء الشباب الذين شبوا على الطوق لم يسألوا واعظ السلطان الرأي، كما لم يخطر في بالهم أن فقيه السلطة سيقول غير ما يقوله الطاغية؟
لذا كان موقف البوطي الأول حين سئل عنهم أنه لا يعرفهم فكيف يوافقهم؟؟ (مرحلة الإنكار)
ثم عرفهم وهم ثوار فغضب من تمردهم على المشيخة وعدم المبادرة بالسؤال عن فتاويه فوصفهم بالحثالة (مرحلة التحقير) فكانت الخطوة الثانية..
وهي الخطوة التي يسمونها في علم النفس (حصرم حلب والثعلب)؛ فحين حاول الثعلب عبثا أن يصل للعنب المدلى فلم يقدر قال إنه حصرم رايته في منذ زمن بعيد في حلب!
ثم تأتي الخطوة الثالثة أنا في وجه الثورة إذا كانت الثورة لم تتبع خطاي وتسمع لقولي وتتبع فتواي.. (مرحلة الطفل واللعبة والعناد)
وهذه الخطوة الثالثة هي كما في علم النفس الغضب والمقامرة بكل الأوراق أي لاعقلانية المواجهة وليس لماذا وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه؟
نفس الشيء انطبق على الأسد الصغير حين نقلت له أخبار الاضطرابات في تونس ومصر ضحك وقال سنقوم ببعض الترقيع في السفينة (وهي مهترئة في خليج مليء بالصخور المرجانية والثعابين الأفعوانية) وكان مثل الجراح الذي يرى ملامح النزيف عند مريضه ليلا فينام ليستيقظ على خبر موت المريض.
السؤال الآن عن البوطي الذي يقتل الناس بالفتوى، كما يقتل طالب والمعلم وحاج علي الناس بالكلمات!
السؤال ماذا سيكون مصير البوطي لو نجحت ثورة الحثالة على حد تعبيره؟
الجواب لاشيء..
لأن البوطي لاشيء..
سينعم بقية عمره في بيته آمنا يصلي ويترحم على روح حافظ الأسد وأبنائه البررة، ويقلب صحائف كتب الفقه الصفراء والبيضاء، ويتلو على الناس فتاوى فقهاء عصر المماليك البرجية أن من يخرج على السلطان يعاقب بالخازوق..