المقصود بتسييس المجتمع هو تعبئة وزج المجتمع بشكل واسع ومكثف دون ارادته في احزاب وتنظيمات سياسية ذات مناهج فكرية مختلفة، او تعبئته وزجه في تنظيم الحزب الواحد، وغالباً ما يكون هذا التنظيم او الحزب هو حزب السلطة والحزب الحاكم. هذا ما كان عليه الحال في عهد النظام الدكتاتوري البائد، حيث تركزت السلطات و الثروات ومقدرات الشعب في قبضة الحزب الحاكم و قائده الأوحد.

وشهدت الساحة السياسية العراقية بعد ازاحة النظام السابق، بداية التجربة الديمقراطية في العراق ونشوء المئات من الاحزاب والتنظيمات السياسية ذات توجهات دينية، ديمقراطية،علمانية واخرى قومية..الخ، والتي معظمها لم ينشأ لضرورة موضوعية أولحاجة وطنية ملحة، بحيث اصبحت ظاهرة ملفتة للنظر الى حد الفوضى، قد تكون هذه الحالة في بدايتها نتيجة طبيعية لمجتمع عانى ولعقود من الحظر في تشكيل الاحزاب غير الحزب الاوحد، ولكن الخطورة تكمن عندما يزج وينظم القسم الاكبر من المجتمع وخاصة من الطبقة الوسطى في مثل هذه الاحزاب، وغالبا لم يكن انتماؤهم الى تلك الاحزاب برغبتهم أو حباً بالعمل تحت راية هذا التنظيم او ذاك، بل فعلوا ذلك مكرهين أو بحثاً عن لقمة العيش او للفوز بفرصة عمل او بقطعة ارض، وهذه الحاجات جميعها تندرج تحت الحقوق الطبيعية للمواطن، كون كل حزب او تنظيم اصبح يمتلك جزءاً من الثروة الوطنية او وزارة او مركز من مراكز السلطة ذات العلاقة بالشأن العام. اي اصبحت مقدرات المواطن مشتتة بين هذه التنظيمات وصلاحياتها، في حين مقدرات المواطن وحقوقه يجب ان تصان من قبل الدولة ومؤسساتها.

ويتضح من ذلك ان في كلتا الحالتين، اي في حالة الحزب القائد او التعددية الحزبية الناشئة بسبب غياب او ضعف في دولة القانون والمؤسسات، اصبحت ارادة المواطن وحقوقه و حريته الفكرية مصادرة، وبالتالي اصبح المجتمع انعكاساً لرغبات و توجهات الاحزاب المتنوعة وخاصة المتنفذة منها،وليس انعكاساً للتطلعات والطموحات الحقيقية للمجتمع العراقي الهادف الى بناء الديمقراطية ومجتمع مدني يسوده القانون وحقوق المواطنة.

في المجتمعات المدنية الديمقراطية او التي في طريقها الى الديمقراطية الحقيقية وبناء الدولة المدنية، تكون النسبةالضئيلة هي العاملة في الاحزاب والتنظيمات السياسية، والنسبة الواسعة والعريضة من المجتمع تكون مستقلة او منتظمة في مؤسسات وجمعيات مدنية و ذات طابع انساني، مهني، ثقافي، اجتماعي، تمثل وتدافع عن مصالح منتسبيها بغض النظر عن الانتماءات والولاءات الحزبية، وتراقب اداء المؤسسات الحكومية و تشكل عوامل ضغط على سلوكها وعملها بطرق سلمية وقانونية. ان استفحال ظاهرة تسييس المجتمع وخاصة بغياب معارضة حقيقية على الساحة السياسية، سيقوض التجربة الديمقراطية المبنية على اساس حرية الرأي واستقلالية ارادة المواطن، كونها تشوه التركيبة الطبيعية للمجتمع وطبقاته الفاعلة في احداث التغيير والتجديد والتقدم في المجتمع، وخاصة عندما تصادر ارادة الطبقة الوسطى والتي هي الاكثر فاعلية وتأثيراً في المجتمع. وظاهرة تسييس المجتمع لا تقل خطورة عن ظاهرة عسكرة المجتمع التي تبناها النظام الشمولي البائد، والتي ادت الى استنزاف طاقات المجتمع، حيث سخر كل الطاقات المبدعة في المجتمع للجهد العسكري الاستهلاكي، على حساب القطاعات المهمة والحيوية الاخرى في المجتمع.

هكذا كان الشعب كله quot;مشروعاً للموتquot;، وان ظاهرة التسييس هي ايضاً تجعل المجتمع مسلوب الارادة غير قابل للابداع والبناء، و تابعاً ضعيفاً وذليلاً لمناهج فكرية لا يؤمن بها، بذلك يصبح المجتمع بأسره quot;مشروعاً للتسييس والتحزب quot; وليس مشروعاً واعداً للبناء والتنمية والابداع.

[email protected]