بينت في مقالتي السابقة يوم 19-8 عن المصداقية الأخلاقية التي تسعى لها تركيا من خلال مؤازرتها لمواقف أخلاقية لا زال العالم الغربي والعربي لا يعرف كيف يتصرف حيالها.. والتي بدأتها تركيا بالمصادقة على شرعية القانون الدولي عام 1949 حين إعترفت بإسرائيل كدولة وفي حق اليهود بالعيش في حدود دولتهم الحديثة والتي أخذت الشرعية من الأمم المتحدة.. ولكنها في ذات الوقت لم تتخلى أبدا عن حقوق الفلسطينيين وتقف الآن صامدة بمؤازرة هذه الحقوق التي بلورتها القيادة الفلسطينية في قرارها التوجه للأمم المتحدة لقبول عضويتها كدولة ذات سيادة في الأمم المتحدة.. تبعتها بموقف أخلاقي آخر ممثلا بزيارة اردوغان لدولة مسلمة ( الصومال ) تمر بمجاعة تفطر القلوب ولا يعرف العالم كله كيفية التعامل معها بسبب حروبها الداخلية العقيمة..

تابعت بعد ذلك الخطوات التركية الحثيثة تجاه إنتفاضات العالم العربي.. وسعيها لمساندة شعوب هذه الدول في حقوقها المشروعة.. تابعت العديد من المقالات والتكهنات حول النوايا التركية من هذه الخطوات.. ولكن أكثر ما صدمني هو التحليل الذي ورد في مقالة كاتب يحذر فيها من هذه النوايا معتقدا أن هدفها الأساسي السيطرة على قناة السويس وبالتالي السيطرة على الملاحة البحرية الدولية في القناة.. وسعيها للخلافة وطموح رئيس وزرائها بأن يكون خليفة للمسلمين..؟؟

أنا لست بصدد الدفاع عن تركيا أو أية دولة.. وأؤمن إيمانا كليا بأن الإستقرار الإقتصادي مرتبطا ترابطا كليا مع الإستقرار السياسي في أي دولة هو الهدف الرئيسي للعلاقات الدولية.. وأنه الهدف الأساسي من التحرك التركي الأخير.. أضف إلية إحساس العزة بالكرامة التركية التي جرحت من 1- التحايل ورفض عضويتها للإتحاد الأوروبي - 2- تجاهل إسرائيل التام لمطلبها الإعتذار عن قتل التسعة أتراك والغطرسة الإسرائيلية.. 3- محاولة الموازنة ما بين مصالحها مع العالم الغربي والعربي وتحدي العالم الغربي بمصداقية وصدق نواياها الدولية كدولة مسلمة نجحت في التجربة الديمقراطية وأثبتت بما لا يدع مجالا للشك بأن ليس هناك من تناقض بين روح الإسلام والديمقراطية.. وأنها تسعى للتعايش مع العالم باكملة ولكن ليس بشرعنة الإزدواجية وإنما بنموذج أخلاقي يستند إلى القانون الدولي ويتشبث في تطبيقة بعدالة ومساواة بين جميع الدول..

إن خطوات الدولة التركية ممثلة برئيسها أردوغان متحدية المعارضة الداخلية التي ترى بهذا الإتجاه تعارضا واضحا مع المصالح التركية المتمثله في علاقتها المتينه مع الولايات المتحدة وإسرائيل.ليس هدفها تحدي الولايات المتحدة أو الهيمنة على المنطقة العربية بقدر ما هو تقديم النموذج التركي كتجربة ناجحة وممكنة بدل التشبث بنموذج نعرف مقدما أنه لا يصلح لا للتعامل مع الأزمات الداخلية ( الشباب وأفكارهم في الحرية ) ولا الأزمات الخارجية التي تتوجس من الإسلام السياسي.. فتركيا اليوم لا تسعى ولا تريد الخلافة لأنها عبء عليها وهي ليست بالغافلة عن الحقبة الظلامية التي ساهمت بها خلال خلافتها.. ولكنها والعالم يقف على حافة إنهيار إقتصادي كبير لا أحد يعرف مداه.. تريد تنسيق وتعاون في المنطقة كلها يضمن إستقرار مواطنها ومواطني المنطقة العربية.. خاصة بعد أن تيقنت من أن المراوغة في موضوع عضويتها.. وإحتمال إنهيار الإقتصاد الأوروربي حدثان حاصلان.. وبالتالي سعت إلى محاولة تغيير صورة الماضي البغيض في المنطقة العربية.. في عالم جديد متسع الأطراف..

إن ثروة تركيا الحقيقية تكمن في العامل البشري الذي إستطاعت الحكومات التركية المتعاقبة وعلى مدى الستون عاما الماضية أي بعد إنهيار الدولة العثمانية.. إستطاعت تغيير ذهنيته ليتوجه إلى إسلام معتدل يستطيع التعايش مع الجميع حماية لمصالحة بينما عجزت الأنظمة العربية كلها عن تغيير هذه الذهنية التي لا ترى في العالم إلا تفّوقها وإمتلاؤها الفارغ بالنفس. إضافة إلى أن تركيا دولة غنية بمواردها الزراعية أي تستطيع ان تكلفل لمواطنيها أجمع لقمة عيش ربما بدون أي شيء من العالم الخارجي.. ولكن الحكومة التركية رأت في حسابها لمصالحها أنها وبرغم كل شيء بحاجة إلى العالم كلة من حولها وخاصة إلى العالم العربي.. ولكن بدون هيمنة. وإنما بقيادة واعية وحكيمه..

تركيا تعلم أن ثروتها المائية.. وهي الثروة التي يعتقد الكثيرون بانها ستكون أكبر تحدي عالمي لمنع الحروب بسبب إمكانية شحها.. ولكنها تفضل التعاون والتنسيق ليستفيد الجميع وفقا للقوانين الدولية.. إضافة إلى الإنجاز الإقتصادي الهائل حين إستطاعت توجية ذهنية مواطنها إلى قيم العمل والإنتاج بحيث نقلت إقتصادها بعد إنهيارة في أواخر الدولة العثمانية إلى سادس أو خامس أقوى إقتصاد في أوروبا.. ويحتل المرتبة السابعة عشر على مستوى العالم بأسرة..
نعم تجربة تركيا غنية بنجاحها الديمقراطي وبإقتصادها وبتغيير ذهنية مواطنها.. وجديرة بالأخذ بها كنموذج معدّل بدل الدخول في متاهات إقتصاد إسلامي يقوم على التنمية بالإيمان!

من المخجل أن تنتهي زيارة أردوغان لمصر بالردح. وبتقدير سوء النية الخالص.. خاصة وأن هناك تجربة إسلامية اخرى في المنطقة أثبتت بما لا يدع مجالا للشك بعقمها وبعدم ملائمتها للعصر ولا للإنسان العربي وهي التي تسعى للهيمنة والسيطرة على مقدرات المنطقة العربية.. ولكن بسوء نية..

إن توجس الدول العربية من الخطوات التركية ليس في محله..فالشباب العربي قادر على أن يتفاوض مع أية قوة من منطلق حساب المصالح ولكن الأهم ربط كل هذه المصالح مع المبادىء بدون مغالاة ولا تشنج.. كما تفعل تركيا الآن..

نقطة الوصم الوحيدة على الجبين التركي.. هو علاقتها مع حقوق الأكراد والذي آمل أن تتعامل معه بصدق ومصداقية كما تتعامل مع الحقوق الفلسطينية.. العالم لم يعد قرى متناثرة.. بل أصبح قرية كونية واحدة.. والطريق الوحيد لحماية هذه القرية يكمن في تبني المبادىء الأخلاقية بدلا من تبنى القوة العسكرية التي تحصد أرواح الجميع بلا تفرقة...
خطوات تركيا في الإتجاه الصحيح.... ولكن علينا أن نوقن بأنها محاولة إرساء دعائم توازن مصالح ما بين علاقتها مع الغرب.. ومع المنطقة العربية الإسلامية... والأخذ منها بما يفيد الإنسان العربي في منطقة تتلاطمها أمواج عاتية لا أحد يعرف متى تستقر !!!

أحلام أكرم ndash; باحثة وناشطة في حقوق الإنسان