كانت انعاكاسات الحرب العراقية الإيرانية الخطيرة على الاقتصاد العراقي المنهك، وتفاقم الأوضاع المعيشية، وازدياد وتيرة الفساد، وتصاعد حملات القمع والاضطهاد واستهتار أبناء الرئيس وإخوته وأقاربه وكبار قادة حزبه وحرسه الجمهوري ومخابراته وفدائييه، عوامل موضوعية جعلت الشعب العراقي يتحفز للثورة من أجل الخلاص من هذا الطاغوت في أقرب فرصة سانحة.

ثم جاءت مقامرة غزو الكويت الخاسرة لتضيء أمل الحرية في نفوس الملايين من العراقيين، وتبشرهم بقرب سقوط الديكتاتورية، إما بقوة العساكر الهائلة الزاحفة لتحرير الكويت، وربما السبر إلى بغداد لإسقاط النظام، أو بثورة من الداخل، أو بكليهما.

وأكثر ما يهمنا أن نتذكره في هذا الأيام الساخنة التي ضرب فيها الشعب السوري البطل أروع الأمثلة في الصمود والشجاعة والفداء، هو ما أعقب هزيمة النظام في الكويت من حوادث عراقية دامية تستحق التأمل واستخلاص العبر والدروس.

فقبل غزو الكويت كانت أحزاب المعارضة العراقية، بفصائلها وتجمعاتها ومليشياتها، قد بلغت حدا من الضعف والتمزق لا يؤهلها لمقارعة نظام يتقن مهنة القتل بامتياز. وصارت، كلها دون استناء، موقنة بصورة كاملة ونهائية، بأنها عاجزة عن قطع ولو شعرة واحدة من رأس صدام حسين.

ولم يصمد منها في المواجهة إلا فصائل متفرقة صغيرة ليس لها وزن في الشارع العراقي فاعل وقادر على الصمود وقيادة الجماهير وتفعيل ثورتها الكامنة. فيما هرب أغلبها إلى الخارج، بكامل تنظيماتها ومليشياتها وقادتها الكبار والصغار. رغم أن الأوضاع المزرية في ظل النظام كانت توفر أرضا خصبة لثورة شاملة لو مكث الجميع في الداخل وشكلوا جبهة وطنية واحدة تقوم بما تقوم به اليوم تنسيقيات الثوار السوريين في الداخل، والتي سبقت وتجاوزت معارضة الخارج بكثير.

ما حدث عندنا هو العكس. فالمعارضة موجودة فقط في الخارج، حيث صارت دمشق ولندن وطهران مراكز تجمع اللاجئين العراقيين الهاربين المطلوبين من النظام، أو المهاجرين بسبب سوء الأحوال المعيشية والبطالة وانعدام الأمان.

كانت المعارضة في الخارج لا تشكل من مجموع اللاجئين سوى نسبة صغيرة لا يعتد بها. وقبل غزو صدام للكويت لم يكن اللاجئون العراقيون يحظون باهتمام كبير من حكومات الدول المضيفة. والشاطر منهم من يحصل على مساعدات إنسانية ضئيلة، وسكن، وموافقة على الإقامة المؤقتة. أما بعد الغزو فقد أصبحوا فجأة محل اهتمام حكومات عديدة في الشرق والغرب، على حد سواء. وقبل الغزو كان بعض الأحزاب يتمول من إيران فقط، أما بعد الغزو فقد انفتحت عليها أبواب عديدة للتمويل، أجزلت لها العطاء.

وفي غفلة من الزمن، ومثلما يحدث في الانقلابات العسكرية في العالم الثالث، هيمن شطار المعارضة الكبار على كامل جسد المعارضة، لا بتاريخ نضالي طويل، ولا بفكر سياسي أصيل وعميق، ولا بسمعة نقية مبرأة من الاحتيال والاختلاس، وإنما بقوة مواهب أخرى لا تتوفر إلا للشطار الكبار.

ثم تمكنوا من ضم بعض المعارضين تحت زعاماتهم، وعجزوا عن إقناع كثيرين آخرين من اللاجئين الذين احترموا أنفسهم وتواريخهم، وغادروا الساحة وارتضوا التهميش والإهمال، خوفا على سمعتهم من تهمة العمالة والارتزاق. وهنا صار ملعب المعارضة كله للسبعة الكبار، وحدهم، يصولون فيه ويجولون.

وإلى أن قررت إدارة بوش غزو العراق كانت معارضة هؤلاء الشطار لنظام الديكتاتور لا تزيد عن مؤتمرات باذخة وبيانات صارخة. أما عدا ذلك فقد اكتفى هؤلاء القادة المُفبرَكون نسبة لـ (فابريكا) بالقبض من الممولين، واتخذوا من التبعية لهذه الدولة وتلك مهنة ًمجزية أكثرَ مردودا حتى من تهريب السلاح والكوكائين.

إلى أن اندلعت الانتفاضة الشعبانية، كما يسميها الإسلاميون العراقيون الموالون للولي الفقيه، وانتفاضة آذار، كما نسميها نحن المخالفين والمشاكسين. حديثي هنا عن الجنوب العراقي وليس عن الشمال. فحديث الانتفاضة الكردية يطول ليس هنا مجاله.

وجاء اندلاع تلك الانتفاضة العفوية الصادقة المُبرأة من حسابات الربح والخسارة على يد ضابط ٍ مُنهك من بقايا قوات النظام العائدة من الكويت تجر أذيال الهزيمة، واسمه حسين السامرائي. فحين وصل إلى مركز مدينة البصرة، وهو ممتليء قرفا من نظام ٍأحمق يقوده رئيسٌ أهوج ذبح مئات الآلاف من شباب الوطن في معركة غبية يعلم حتى أطفال السياسة أنها خاسرة بكل الحسابات، وجه مدفع دبابته نحو جدارية تحمل صورة الديكتاتور وأطلق عليها قدذيفة غاضبة أشعلت حماس الجماهير، دون أية مقدمات ولا مخططات مسبقة، ثم اجتاحت الانتفاضة أربعة أخماس العراق في أيام.

في أوج ذلك الطوفان بالذات كانت أمريكا وإيران وسوريا والسعودية تلملم أحزاب المعارضة المتدافعة المتزاحمة على وراثة النظام، في مؤتمر للمعارضة العراقية في بيروت آذار/ مارس 1991، قبض البعث السوري، سلفا، من السعودية أربعة ملايين دولار لدفع تكاليفه، بما فيها أجور سفر المدعوين من وإلى بلدان اغترابهم. والشيء بالشيء يذكر. يومها (شفط) قادة المخابرات الجوية السورية نصف َ المبلغ، وتركوا بعض الوفود عالقة في بيروت تبحث عمن يدفع لها أجرة العودة. وكان أياد علاوي وصلاح عمر العلي وعميد المعارضة العراقية سعد صالح جبر، وأعضاء أحزابهم، ضحايا تلك البلطجة، الأمر الذي جعل الأمير تركي الفيصل يبعث بطائرته الخاصة لإخراجهم من ورطتهم في لبنان.

في ذلك المؤتمر سمعنا ورأينا القادة الوافدين من إيران وسوريا وبريطانيا والسعودية، يتقاتلون على الانتفاضة، ويتسابقون إلى ادعاء أبوتها وأمومتها وعمومتها وخؤولتها. وكادت تحدث بينهم معارك بالأيدي والأرجل في قاعة المؤتمر. فمنهم من أصر على رئاسة الجمهورية، ومنهم من أجلس نفسه على كرسي رئاسة الوزراء، وآخر انتزع وزارة الخارجية، وثالث احتل وزارة النفط، وورابع وزارة المالية، وخامس وزارة التربية، حتى لم تبق وزارة ولا سفارة إلا وأهديت لمالكها الجديد، ونحن ما زلنا على البر، وقبل أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من مصير الانتفاضة التي كانت ولدت من تراب الأرض العراقية في الداخل، دون قابلات ولا عرابين.

وقد حظيت تلك الانتفاضة، من ساعاتها الأولى، بتأييد حاشد وكبير من الجماهير العراقية الواسعة في أغلب مناطق العراق الأخرى. كما سارعت دول عديدة، في مقدمتها بعض دول الجوار وأمريكا وإسرائيل، إلىالترحيب بها وإبداء الاستعداد لدعمها، لا حبا بسواد عيون العراقيين بل كرها لصدام وثأرا منه ومن نظامه.

كانت قوات جورج بوش تقترب من بغداد لتقطع رأس النظام. لكن، وفجأة، دخل الحرس الثوري الإيراني على خط الانتفاضة، وأمطرت السماء صورا للخميني وشعارات ٍ من نوع ( ماكو ولي إلا علي ونريد قائد جعفري)، تماما كما صرنا نسمع ونشاهد بعد سقوط النظام في 2003 بالتمام والكمال. وكأن دولة الولي الفقيه أرادت أن تحمي رقبة النظام من حبل المشنقة، وأن تقنع أمريكا والسعودية ودول الخليج الأخرى بأن تكتفي بما أنزلته بصدام من عقاب لاذع، وبأن تلملم قواتها وتعود من حيث أتت، وتترك لعلي كيمياوي دفن َ ثوار الانتفاضة في المقابر الجماعية، والسير والرقص على جثث المنتفضين، تماما كما يفعل اليوم رفيقه البعثي الهمام بشار الأسد وشبيحته الميامين.

ويرجع فشل الانتفاضة إلى أسباب عديدة، أولها القلق الذي كان يعتري دولا عديدة في الإقليم، بالإضافة إلى أمريكا وأوربا وإسرائيل، من هلال شيعي يمتد من إيران عبر العراق إلى سوريا ولبنان، الأمر الذي جعلها تتراجع عن هدف إسقاط النظام. وثانيها أن كثيرين من العراقيين تراجعوا عن تأييدها إما خزفا من بطش النظام، أو رعبا مما رأوه في بعض المدن من فوضى عارمة ونهب وسلب وحرق وعمليات انتقام غوغائية غير عادلة ولا عاقلة، أو خوفا من بديل يكون أسوأ من ديكتاتورية صدام حسين.
وهذه ورقة مهمة نتمنى أن تضعوها على الطاولة، أيها الأشقاء السوريون. وتعرفون بقية الحكاية وما حل بالشعب العراقي بعد ذلك من مصائب لا تتوقف ولا تنتهي، وقد لا تنتهي عما قريب.
المهم أن جيوش الأحزاب الإسلامية كانت أول الهاربين من ساحات المعارك إلى إيران، تاركة أهلها وأهلنايذبحون علنا وعلى شاشات التلفزيون.
هذه كانت خيبتنا العراقية الأولى أيها الأشقاء السوريون. أما الثانية فتعرفونها. فبعد أن حلمنا عشرين سنة، من يوم فشل الانتفاضة ولغاية نيسان/ أبريل 2003، بدولة عادلة جديدة ُتعوضُنا عن آلام أربعين سنة من الظلم والفساد والطائفية والسجون والمقابر والمهاجر، تأملوا ما فعلناه بأنفسنا وبأجيالنا القادمة.

تفحصوا حالنا وتدبروا. بنفس قادة مؤتمر بيروت، وبنفس شعاراتهم، ونفس تكالبهم على المناصب والمراتب والمكاسب، أقمنا جمهورية موز يسميها أصحابها، ظلما وبهتانا، دولة قانون.

وحين دخلوا العراق يوم سقوط النظام بدبابات أمريكا وليس بقوات مليشياتهم، كان أولَ إنجازاتهم، فور هبوطهم من الطائرات، بعد غياب طويل وجوع عظيم إلى السلطة والثروة والفخفخة، هرولتهم لاحتلال قصور الحكام السابقين، ومداهمة البنوك والمصارف والوزارات، وسرقة المال العام والوثائق والمستندات، واستقدام المليشيات من الخارج، بأسلحتها وذخيرتها الكاملة.

وللتاريخ، أبريء هنا الشيوعيين، وعددا كبيرا من المستقلين الشرفاء، من عار استغلال النفوذ والاختلاس والكذب على الجماهير. لعل نزاهتهم ووطنيتهم الصادقة هي التي أسقطتهم في صراعهم مع الطائفية والعنصرية والفساد وتزوير الشهادات، ومن الأيام الأولى للعهد الديمقراطي الجديد في العراق. وهذه هي الورقة الأخرى التي ينبغي أن تقرأوها بعناية.
وها نحن كما ترون. بعد ثماني سنوات من حكم شطار المعارضة العراقية السابقة، ومئات المليارات من الدولارات المنهوبة، ما زلنا بلا غذاء ولا دواء ولا ماء ولا هواء ولا كهرباء، وفي كل يوم فضيحة، وفي كل يوم جرجرة ومطمطة مقيتة سخيفة ومعيبة.

تأملوا الحلاوة. رئيسُ جمهوريتنا يسافر إلى نيويورك لأيام قليلة بمليونين ونصف مليون دولار. ورئيس وزرائنا َيذبح بصمت في البيوت، وعلى البارد، ودون ضجيج. ووزراؤنا الأشاوس كلٌ ملك ٌ في وزارته. يُحيي ويميت. ُيفقر ويغني. أولادُه أولا، ثم إخوته، ثم أبناءُ عمه، ثم خاله، ثم أفراد الحماية والعبيد.

لا كرامة لأحد إلا لمن في يده سوط أو خنجر أو سكين. وإلا لمن يجلس على ملايين لا يعرف أحدٌ من أين، مسروقة أو منهوبة، لا يهم، بعد أن كان لا يغادر المقهى إلا وقت َ الرقاد، في دمشق ولندن وطهران، ولا يملك شروى نقير. أما المليشيات فحدثوا ولا حرج. وأما المفخخات والكواتم فحديثها يطول.

فكيف لا تقرأون ولا تسمعون ولا تتقون؟ أتريدون لانتفاضتكم المجيدة أن تنتهي كما انتهت الانتفاضة في العراق، قبل عشرين سنة، حين أضاعها التناحر بين معارضة مترفة في الخارج وثوار أبرياء غير مسيسين في الداخل يقاتلون لهيب النار بعفوية خالصة دون معين ولا نصير؟. أتريدون لسوريا العزيزة أن تصبح عراقا جديدا وتذهب ريحها وأنتم تتجادلون على الصخرة التي لم تصبح خيشة تمر، بعدُ، ولا وزنة رز، ولا حتى نخالة، وقد لا تكون.

الوقت يضيق، وشلالات الدم لا تتوقف، والنظام، على ضعفه وهزاله، لم يفقد المرضعات ولا الحاضنات ولا المربيات، وأنتم ما زلتم تختلفون، وتماطلون. أعداؤكم من حولكم كثيرون. ومن عجائب آخر زمن أن يتحد عليكم بعث الأسد وبعث عزت الدوري وحرسُ الولي الفقيه وحزبُ الله وإسرائيل.

بالله عليكم. كيف تنامون وتأكلون وتشربون وشبابُكم ونساؤكم وأطفالكم وحناجر مغنيكم وأنامل رساميكم ومنائر ساجدكم ومدارس أطفالكم وساحاتُ مدنكم وقراكم تحترق بقنابل جيش ٍ فاسد عديم الذمة والوطنية والآدمية والضمير؟

الخوف الخوف من أن َتفت َخلافاتـُكم في عضد البعض من الداخل، وفي حماس البعض من الخارج، فتجف الشوارع الثائرة، ويبدأ النظام حصاده اللئيم، وتنام حريتكم، مرة أخرى، في سجونه عشرين سنة أخرى، كما حدث لنا في العراق.

لا تأمنوا لأحد يقودكم، من الخرج أو الداخل، إلا إذا كان ُمزكى ومصفى من الجهالة والأنانية والعمالة واليد الطويلة والنفس الدنية. ولا ُتؤمروا عليكم واحدا يقبض من واشنطن أو الدوحة أو أنقرة أو طهران أو الرياض. فهو، ومهما كانت وطنيته قوية ومؤكدة، إذا ما حكم في الغد، سيستحي من ولي أمره الذي أطعمه من جوع وآمنه من خوف، فتختل السفية، كما فعل ويفعل كثيرون من قادة عراقنا الديمقراطي الجديد.


ولا تسمحوا لسلفي يتمسح اليوم بالديمقراطية والعدالة والمساواة بأن يتسلل إلى قيادتكم ويسطو على ثورتكم الباسلة. فهو ناعم ورقيق وعادل وديمقراطي الآن، ولكنه بعد أن يصل إلى السلطة، لا سمح الله، لن يكون أقل ضراوة من بشار في قتل حريتكم وإفساد ديمقراطيتكم، أيها الأشقاء.

ولتكن الكفاءة والخبرة والنزاهة وحدها موازينكم لقياس الرجولة والرجال، واجعلوها وحدها التي ُتدخل هذا إلى قيادة، وتمنع ذاك، وليست المحاصصة التي توزِع مناصبَ المعارضة في الخارج، ومواقع القيادة في الداخل، حصصا حصصا، حزبية ً أو طائفية أو مناطقية، كما حدث عندنا في بيروت وفينا ونيويورك ولندن وصلاح الدين.
أنتم على أول الطريق. فلا تسقطوا كما سقطنا، ولا َتخِيبوا مثل خيبتنا، أيها الأشقاء.