إذا لم تخونني الذاكرة، اتصل عمنا quot;يحي حقيquot; (1905 ndash; 1992) بالعلامة أبو فهر quot;محمود شاكرquot; (1909 ndash; 1997) خمس مرات في أقل من ساعة، ليسأل عن مقابل بعض مفردات (العامية الفنية المصرية) في اللغة العربية الفصحي (خلال حواري معه في منزله بمصر الجديدة). الدقة الشديدة في انتقاء الألفاظ وهندسة ترتيبها وعدم الانسياق وراء quot;جرسهاquot; كان الهم الشاغل لصاحب quot;قنديل أم هاشمquot; وquot;كناسة الدكانquot; وquot;دماء وطينquot; وquot;خليها علي اللهquot; وغيرها، وهو ما أوقعني معه في مشكلة كبيرة كادت أن تتسبب في (قطع عيشي)!
في أعقاب الغزو العراقي للكويت في أغسطس 1990 صدرت جريدة quot;صوت الكويتquot; لسان حال الحكم وقتئذ، والتحقت بالعمل في القسم الثقافي الذي كان يشرف عليه أثنان من الشعراء: quot;محمد صالحquot; من القاهرة وquot;محي الدين اللاذقانيquot; من لندن، العنوان الرئيسي الذي اخترته للحوار، كان: quot;عوض ومندور والراعي منعوني من كتابة هذه القصةquot; .. ومر العنوان كما هو دون تغيير من مكتب القاهرة إلي لندن، وبعد ساعات قليلة من صدور الجريدة في اليوم التالي فوجئنا بعمنا quot;يحي حقيquot; غاضبا ومهددا بمقاضاتنا في المحاكم لأنه لم يقل هذا الكلام من الأساس، (تكهرب الجو) وأتصل بنا من لندن المستشار القانوني للجريدة وطلب التحقيق، وعنف الدكتور محمد الرميحي رئيس التحرير آنذاك الصحفي الرقيق quot;نبيل سويدانquot; مدير مكتب القاهرة وطلب منه الاستغناء عن خدماتي!
كان هذا هو الشهر الثاني الذي أعمل فيه بالجريدة (وأتقاضي منها ما يعادل عشرة أضعاف راتبي في مجلة القاهرة)، وبدأت بالكاد أسدد ديوني وأشتري مراجع أجنبية لإنجاز رسالة الدكتوراة وأحلم بشراء سيارة (فيات 128 مستعملة)، أما الجرح الكويتي النازف بغزارة وقتئذ فقد كان لا يحتمل إغضاب أحد من المثقفين المنقسمين علي أنفسهم تجاه الغزو العراقي، فما بالك بأديب كبير من وزن يحي حقي، وقد شاهدت بعيني quot; الابتزاز quot; الذي تعرض له بعض الكويتيين أثناء احتلال بلادهم، من كثيرين، تظن ndash; وبعض الظن أثم ndash; (أنهم كبار)! .. كل هذا كان حاضرا في مقدمة المشهد وخلفيته أيضا، قبل أن نتوجه (سويدان وأنا ومصور صحفي لم أتذكر اسمه الآن) إلي منزل يحي حقي في نفس اليوم، حسب طلبه!
رحب بنا ترحيبا شديدا - علي غير المتوقع ndash; وقال: نعم، أنا بالفعل قابلتك هنا وفي نفس حجرة الصالون هذه منذ شهور، لكنني لم أقل: أن لويس عوض ومحمد مندور وعلي الراعي منعوني من كتابة (القصة)، وإنما قلت أنهم منعوني من كتابة (هذه القصة) لأنها كانت شديدة الكآبة والسوداوية وأنا أمتثلت لرأيهم وانصرفت تماما عن هذا اللون الكافكاوي من الأدب. وهنا تدخل الأستاذ سويدان معتذرا عن حذف كلمة quot; هذه quot; من العنوان، وأن المسئول عن ذلك ليس مكتب القاهرة وإنما الأستاذ محي الدين اللاذقاني في لندن وهو بالمناسبة شاعر وأديب سوري (ابن كار) أرتأي أن العنوان يصبح أكثر إثارة وتشويقا للقارئ إذا حذفت منه كلمة quot; هذه quot;، ولم يكمل الأستاذ سويدان جملته حتي قاطعه أدينا الكبير (الذي ترأس يوما أهم مطبوعة ثقافية مصرية هي مجلة quot; المجلة quot; (1962 ndash; 1970) قائلا: quot;هذا تجاوز لحدود الأدب quot;، ويجب أن تنشر الجريدة تصحيحا في نفس الصفحة وبنفس البنط والفنط (حتي لا تترسخ معلومة خاطئة في أذهان القراء بأن النقاد الكبار منعوني من كتابه القصة لأن كتابتي رديئة (مثلا) أو أنني نصف أديب) .. ووافقنا.
قبل أن نهم بالنزول، طلب quot;يحي حقيquot; الانفراد بالأستاذ سويدان، وعلت وجوههنا ابتسامة خبيثة قبل أن ننصرف (منعا للاحراج)، في صوت واحد سألنا الأستاذ quot; سويدان quot; قبل أن يدير محرك السيارة عائدا بنا إلي الجريدة في حي جاردن سيتي الراقي، انفجر ضاحكا حتي أدمعت عيناه وأخيرا قال: يا أشرار لقد ظننتما السوء بالرجل (وتجاوزتما حدود الأدب).. لم يطلب quot;يحي حقيquot; أية مبالغ نقدية مقابل نشر الحوار بالجريدة (كان بعض المثقفين يطلب ببجاحة قبل النشر أو بعده) .. وإنما هو طلب طلبا مستحيلا، لا يقدر علي تلبيته حتي أمير الكويت نفسه!.. فقد ضاعت أمواله التي وضعها في بنك الكويت المركزي قبل الغزو العراقي بأشهر قليلة، ومنها quot;جائزة الملك فيصل العالميةquot; (فرع الأدب العربي) التي حصل عليها بإعتباره من رواد القصة العربية الحديثة، عام 1990، وحده quot;صدام حسينquot; يستطيع أن يعيدها إليه (الآن)!
[email protected]