مرة أخرى يعود جدار الطائفية المقيتة التي تـُحل القتلَ هنا وتُحرمه هناك ليحول بيننا وبين نجدة شعب يذبح كل يوم وكل ساعة، ومن أحد عشر شهرا بالتمام والكمال، وتتكالب عليه المعاول والخناجر والسكاكين الشقيقة، بدافع الحقد الطائفي المخيف، بالتوازي والتماهي مع أطماع دول وشعوب قريبة وبعيدة أخرى تتحرك بنوازع حيوانية لا تحتمل.
ومعذرة، إذا ما هبطت لغة هذا المقال إلى الدرك الأسفل من الإنسانية الناقصة الذي يسكن فيه سياسيون عراقيون وإيرانيون ولبنانيون يتاجرون بالطائفة، ويصعدون على أكتافها، و(يتملينون) باسمها وبمظلوميتها، وهي منهم ومن أنانياتهم براء. فالطائفية، بكل ألوانها ودرجاتها، دليلُ خلل ٍ في قيم صاحبها وفي وعيه وقدرته على التمييز السليم بين أبيض وأسود، وبين خطأ وصواب.
وقبل الدخول إلى معمعة الجدال حول هذه الإشكالية المزعجة ينبغي التذكير بقاعدة ذهبية تعارف عليها العالم، من أيام أفلاطون وسقراط وإلى اليوم، وهي أن الظلم لا هوية له ولا نسب، والمجرم الذي يمتهن الجريمة لا ينتمي إلا إلى فصيلة القتلة والسفاحين واللصوص وقطاع الطرق، وليس إلى أي دين أو عر ق أو مذهب أو مكان.
بالمقابل فإن المناضل الذي يواجه بصدره العاري صواريخ الحكومة وقذائف مدافعها وخناجر شبيحتها لأنه يطلب من سارقه ِ حريتـه وكرامته ونصيبَه من الوطن، مظلومٌ وستين مظلوم، ومن واجب أي إنسان عاقل ومتحضر وشريف أن يحمل ما خف من نفس ونفيس، وما ثقل أيضا، لنُصرته ونجدته، قبل فوات الأوان.
فالمبدأ هو المبدأ. والأخلاق هي الأخلاق. فلا يمكن أن تكون عادلا هنا وظالما هناك. وليس هناك ديانة ولا طائفة يمكن أن تبيح دك المنازل الآمنة بالمدافع والصواريخ، وذبح الأسرى والمعتقلين، ومهاجمة المستشفيات وقتل من فيها من جرحى ومصابين، وقطع الماء والغذاء والدواء عن قرى وأحياء ومدن كاملة.
واليوم، إزاء ما يحدث في سوريا منذ عام، قد يختلف اثنان في الحكم على مطالب المنتفضين، هل هي وطنية خالصة وعادلة، كما يدعي المتظاهرون، أم هي مؤامرة خارجية لقلب النظام بسبب وطنيته وعروبته الصامدة بوجه الصهيونية والامبريالية والاستكبار، كما يزعم حاكم دمشق ومشايعوه؟. ولكن هذا الاختلاف لا يجعل أحدا من الناس، مهما كانت أعذاره ومبرراته، يساند حاكما يواجه شعبه الأعزل بكل ما في جعبته من دبابات ومدافع وطائرات. وإذا كانت دولة ٌ خارجية فاجرة فعلت ذلك، مدفوعة بمصالحها الأنانية الهمجية الفاجرة فليس لعربي ولا لمسلم أيُ عذر لكي يفعل فعلها.
سؤال مهم. إذا سلمنا، جدلا، بأن قادة الأحزاب الشيعية الحاكمة في العراق، والإيرانيين واللبنانيين، يؤيدون بالقول والعمل، وبالمال والرصاص والمجاهدين، تظاهرات المواطنين الشيعة في البحرين، دفاعا عن حقوق الإنسان وعن العدالة والحرية والمساواة والكرامة، فهل يمكن أن يكون انغماس مقاتلي حزب الله اللبناني ومجاهدي فيلق القدس الإيراني، وتهريباتُ حكومة نوري المالكي من المال والسلاح والمقاتلين إلى جلاد دمشق ليرتكب المزيد من القتل والحرق والشنق والاعتقال والاغتيال، وقطع الماء والكهرباء والدواء عن مدن وقرى آمنة كاملة، دفاعا أيضا عن حق وعدل ودين وطائفة؟
أليس قبولهم أو تطنيش بعضهم عن ذبح الشعب السوري ترخيصٌ وتبريرٌ لسحق المتظاهرين في البحرين، وفي غيرها من دول المشاكسات الإيرانية الفاضحة؟ فبالرغم من أن للبحارنة المتظاهرين مطالب عادلة ومشروعة فهيجان البعض في إيران والعراق ولبنان في شتم حكومة البحرين على قسوتها في مواجهة عنف بعضهم بالرصاص الحي وسكوتهم بل دعمهم لسكين الجزار السوري وهي تمارس الذبح اليومي الحلال لا يسيء إلى المتظاهرين البحارنة بل يجعل منهم أداوت إيرانية خائبة لإزعاج السلطات وزعزة الأمن والاستقرار لتخيف أمريكا وحلفاءها في المنطقة من أذرعها المنتشرة هنا وهناك. مع الظن بأن تحريك إيران لطوابيرها الخامسة هذه جزء ٌ من حربها غير العاقلة وغير المتكافئة مع الغرب، وبالذات مع أمريكا، والتي يدفع أثمانها الباهضة مواطنون أبرياء في البحرين وفي سوريا ولبنلن والعراق.
سؤال آخر. حين بدأ الخميني ثورته الواعدة ألم تهبَّ شعوبنُا العربية كلها لتأييدها ودعمها والتبشير بأهدافها التحررية الرائدة؟ هل تخلف عربي عاقل ومخلص ونزيه عن الهتاف بحياتها لأنها ثورة شيعية خالصة؟
وحين واجه حزب نصر الله جبروت إسرائيل في الجنوب والضاحية من بيروت هل قصرت الجماهير العربية، كلهُا، شيعية وسنية ومسيحية ودرزية، في نصرته ونصرة مجاهديه زاعمة أنها حرب خصوصية يشنها حزبٌ شيعي لحساب دولة شيعية أخرى، أكثر مما هي حرب وطنية لبنانية عربية خالصة، وبالتالي فهي لا تعني سوى الشيعة وحدهم في لبنان وإيران والعراق؟
وبالعودة إلى الماضي القريب حين كان قادة الحرس الجمهوري و(شبيحة) فدائيي صدام، وفيهم قادة عسكريون كبار (شيعة) يقاسمون قادة عسكريين (سنة) هواية استخدام الأحذية وأعقاب البنادق لرفس وجوه المنتفضين العراقيين المكبلين بالحبال، أو الرقص على جثامين (الشهداء) من أبناء انتفاضة آذار عام 1991، هل تأخر العراقيون الشرفاء عن مقاتلة النظام المجرم، أو وفروا جهدا لنجدة أشقائهم، دون أن يتوقفوا، ولو للحظة واحدة، لكي يسألوا عن طائفة القاتل أو عن طائفة القتيل؟.
وهنا لابد من وضع النقاط على الحروف، ونسأل. ما بال الطائفة الشيعية في العراق، وهي التي ثارت أمس تحت شعار (مظلومية الأغلبية الشيعية) ضد حكم (الأقلية السنية) الظالمة، تسمح اليوم لسياسيين من أبنائها يدعون تمثيلها ويحكمون باسمها وباسم مظلوميتها السابقة، بأن يقفوا، قولا وعملا، ضد مظلومية (الأغلبية السنية) الثائرة على ظلم الأقلية الظالمة في سوريا، رغم أن المطالب هنا وهناك، هي ذاتها، ولم تزد عن العدالة والحرية والكرامة والأمن والأمان؟.
مع التذكير بأن نظام صدام القاتل لم يكن سنيا ولا شيعيا، لا عربيا ولا كرديا، لا مسلما ولا مسيحيا، بل كان صداميا خالصا. ورغم كل ذلك فقد حمَّل قريته (العوجا) كلَّها جريرة أعماله الشائنة، فمزق شمل أبنائها، وشرد أهله وأهلها، وأذلهم وأذلها، وتسسب في خراب البيوت.
تماما كما يفعل اليوم هذا الحالكم الأحمق في دمشق، حين يتخذ من طائفته العلوية الصغيرة درعا بشريا يواجه به غضب الملايين السورية الثائرة، فيقامر بمصيرها، ويصر على وضعها أمام فوهة المدافع الثقيلة القادمة، ويعمل على نكبة الطائفة كلها في الغد الآتي القريبب.
هذا كله يضاف إلى أن الواقع المرير أثبت أن ما فعله صدام ومعاونوه في العراق لا يساوي عُشر ما يفعله اليوم حاكم دمشق وحرسه الجمهوري وشبيحته بسوريا.
وحين كانت هناك مظلومية ٌ شيعية حقيقية في العراق، لم تكن الطائفة (المظلومة) وحيدة في المعركة. فمن عام 1991 وحتى سقوط النظام، كانت معها شعوب وحكومات عديدة، تقدم لها المال والسلاح، بلا حدود. ويكفي ما أنفقته إيران على مليشيات وأحزاب وتنظيمات عراقية كانت تسلح وتدرب وترسل من إيران لكي تقاتل جيش وطنها، فتغتال جنوده وضباطه، حتى وهم من أبناء الطائفة ذاتها. وثابتٌ أيضا أن العامل الخارجي وحده هو الذي أنصف الطائفة وحررها من جلادها الكبير. فلم يكن نظام صدام ليوقف ظلمه ومجازره ومقابره الجماعية لولا جحافلُ الدبابات الأمريكية التي اجتاحت العراق فأسقطت الديكتاتور وسلمت السلطة إلى الأغلبية المظلومة، ونصبت زعماء أحزابها ومليشياتها ملوكا وسلاطين.
صحيح أن آلافا من السياسيين والكتاب والمعلقين العراقيين والعرب الشيعة الشرفاء هبوا لنجدة السوريين، ولكن ما يحزن هو أن الطائفة، كطائفة، ما زالت ساكتة وغير مبالية وهي ترى وتسمع حكومات ٍ مهمة تدعي الحكم باسمها وبالنيابة عنها تعُاون الفئة القليلة الظالمة وتنكر على الأغلبية حقها في المظلومية، بل تغمزها بالعمالة والخيانة، وتُعيرها بأنها تطلب النجدة من الخارج وتناشد العالم المسيحي، بعد أن تخاذل عنها أشقاؤها المسلمون، أن يهب لحمايتها ويعينَها على وقف نزيف دماء أطفالها ونسائها وشيوخها، ومنع انتهاك حرماتها.
هذا مع التذكير بأن حكام العراق هؤلاء لم يجلسوا على كراسيهِّم المُذهبة إلا بعرق جبين العساكر (الغازية) الخارجية الصديقة العزيزة محررة الشعوب وحامية حمى المسلمين.
هل من يفسر هذه الأحجية؟.
أغلب الظن أن الدنيا مصالح ومنافع، لا مباديء وضمائر، ولا يحزنون. والقتل والاغتيال، وقلع العيون والحناجر، وإعدام الأسرى والجرحى والمصابين، قد يكون لدى البعض جريمة، ولدى بعض آخر جهادا مقدسا لرفعة الدين والطائفة، وحفاظا على السيادة الوطنية المقدسة، وحربا ضد إرهابيين مأجورين يقاتلون دبابات حكومة مجاهدة ممانعة عفيفة شريفة بالأهازيج والأغاني والزغاريد. والله على ما أقول شهيد.