الحلقة الاولى

قبل أيام كنت مع قرّائي في القسم الأول من هذا المقال، واليوم أكمل ما بدأته من ملاحظات على المشهد السلفي في مصر، وما يرتبط به من أواصر تاريخية.
إن البحث في موضوع تأثير السلفيين على حركة المجتمع، وأي مؤاخذات تلحق بهم، لا ينبغي أن يفهما كانتقادات لمراجعهم من العلماء القدامى الذين كانوا مجتهدين في زمانهم، وبعيدين عن متطلبات عصرنا، وما عاد بيننا وبينهم من المشتركات إلا العناوين العامة للإيمان، كالتوحيد والنبوة، أما القدر الكبير من الإحترام الذي يكنّه لهم بعض المسلمين، فإنه لا يبرر الدعوة الى بسط ولاية أفكارهم على تفاصيل حياة الغالبية من المسلمين.
إن المشكلة مع السلفيين كما أراها، تتلخص في طبيعة خطابهم ومدى قدرتهم على نقله الى الواقع، وما دام الحديث عن الإقتداء بالسلف، يجري بشكل إنتقائي، فأن مساحة الصدق تضيق، ما يتعذّر معه تشكيل قناعة عامة. ما يؤيد هذا الطرح إن شيخ السلفية، أبو إسحاق الحويني، كان يحرّم الترشح الى البرلمان، وكذلك التصويت للمرشحين، وينكر على الإخوان المسلمين وصفهم للمواطنين الأقباط بأنهم إخوة، كما كان يدعو لغزو البلدان، بهدف جمع الموارد للدولة quot;الإسلاميةquot;، من غنائم وجزية، وما نعلمه عنه أيضاً إنه يزدري النساء، ولا يقرّ بحقوقهنّ في الولاية على أمر المجتمع، لكن الذي يحصل الآن من أتباعه إنهم دخلوا البرلمان ورشّحوا النساء، وتعاطوا مع دول الغرب (الكافرة) وفق معتقداتهم.
إن ما كان يميّز فقهاء السلف، بشكل عام، هو صدقهم وخطابهم الواحد، بصرف النظر عن مدى رجاحة أفكارهم وإمكانات تطبيقها في زماننا، لم يكونوا ndash; في معظمهم ndash; من ذوي المال، وبالتالي لم يكن لديهم ما يعينهم على نيل المطالب، سوى علمهم ودرجة تقواهم، وإن أفتى بعضهم بطاعة السلطان، أو تغاضى عن مجافاته للحق، فهل هذا هو حال كبار السلفيين من الاثرياء وأصحاب الملايين، الذين يستمتعون بكل منجزات علوم الغرب، ويطلّون عبر فضائياتهم، وهي من مخترعات علماء الغرب؟ والحق إنهم لم يحققوا هذه الدرجة من الشعبية في مصر وغيرها، إلاّ بفضل خطط الغرب، أو ربما قصور نظر ساسته وتلك أفغانستان شاهدة على العهود التي أبرمها المجاهدون مع الأميركيين، لطرد القوات السوفيتية، ثم العهد الآخر مع قوات طالبان الذين أكملوا تخريب بلادهم، مجتمعاً وتراثاً.
والعراق يشهد أيضاً، فقد أتخم بعد الإحتلال ببضاعة السلفيين من كل أقطار العروبة، وكانت تجارتهم رؤوس العراقيين ودمائهم. ومن لا يصدّق بشاعة سلفيي القاعدة في العراق،عليه أن يقرأ ما صرّح به شيخ السلفية الجهادية في تونس، سيف الله بن حسين الملقب ب (أبو عيّاض) الى صحيفة تونسية، فقد حرّض على مواصلة quot;الجهادquot; في العراق، حتى بعد انسحاب قوات الإحتلال، ذلك إن الأميركيين - حسب زعمه ndash; quot;تركوا الفرس والروافض يحكمون العراقquot; وأضاف: quot;يجب على المالكي وأزلامه أن يزالوا من على الأرض، وإن على المجاهدين أن يكثفوا من ضرباتهم...quot; وختم أبو عيّاض حديثه بأن حمد الله على قتل العراقيين في عمليات تفجير متتابعة، في شهر ديسمبر الماضي (13 عملية)، وقال: quot;نسأل الله أن يوفق إخوانناquot;. هذه الأقوال الصريحة في إباحة إهراق الدم العراقي، لم ترق للشيخ مهدي الصميدعي الذي يوصف في وسائل الإعلام ب (أمير السلفية الجهادية في العراق)، فقد انتقد أبي عيّاض، والسبب إنه كنظرائه سلفيي مصر، قرر أن يدخل العملية السياسية وتصالح مع الحكومة، وأغلق صفحة quot;الجهادquot;.
ودول الغرب هي التي احتضنت عتاة السلفيين كالشيخ عمر عبد الرحمن (اميركا) وعمر بكري وأبي قتادة (بريطانيا)، وهذا الأخير فاز بصكّ البراءة من أعلى محكمة أوروبية. وفي معرض التذكير بدور الغرب في دعم الحركة السلفية، لابد من التوضيح بأن المقصود هو الجانب السياسي، والتقاء المصالح بين الطرفين في مسالتين أساسيتين، أولاهما التصدي للإحتلال السوفيتي لأفغانستان، ثم ما استجد من متطلبات المواجهة مع ثورية بعض آيات الله في إيران، وللمفارقة فإن الحدثان متقاربان في الزمن (1978 و1979).
أما الجانب الإعتقادي لدى السلفيين، فهو موغل في القدم، وعبر تاريخ المسلمين كان لهم صولات وجولات، وبقدر ما حاربوا الميل الى التحديث، فإن تراث الأقدمين لم يسلم من معاولهم، ولا سلمت من محارقهم كتب العلماء والفلاسفة، حتى المسلمين منهم، ففي عهدصلاح الدين الأيوبي، quot;الرمزquot; الذي يتغنى ببطولاته الكثير من العرب، أحرقت مكتبة دار الحكمة في القاهرة، وكانت تضم مئات الألوف من الكتب، كما جرى هدم عدد من الأهرامات الصغيرة. وفي العام 1193م وفي عهد الملك العزيز، خليفة صلاح الدين، جرت محاولة لهدم جميع الأهرامات، لكنها لم تفلح (توفيق أبو شومر- الحوار المتمدن، استناداً الى كتاب الإفادة والإعتبار في الأمور المشاهدة بأرض مصر، ص144- عبد اللطيف البغدادي-دار قتيبة- دمشق).
وكانت نخبة من أساتذة التاريخ والآثار، قد عقدوا في المجلس الأعلى للثقافة في مصر، ندوة في ديسمبر من العام 2010، أجمعوا من خلال أبحاثهم فيها، على إن صلاح الدين دمّر تاريخ الفاطميين وما ارتبط به من منجزات حضارية، ما أدى الى ضياع جزء من تاريخ البلاد.
ومن أهرام مصر الى تلك البلاد التي قال عنها الشاعر صائب التبريزي، في القرن السابع عشر : لا أحد يستطيع أن يعدّ الأقمار التي تشّع على أسطحها/ أو الألف شمس مشرقة تختبئ خلف جدرانها، أفغانستان التي أحالها عبث سلفيي طالبان والغرباء من القاعدة، الى خراب، فقد عبثوا بتاريخ شعبهم واستبدلوا معاول أسلافهم بالمتفجرّات، ليهدّوا صرحاً فنّياً شامخاً، تمثال بوذا في منطقة باميان، وكان الكاتب الأفغاني خالد حسيني قد أفاض في ثنايا روايته المتميزة، ألف شمس مشرقة، في وصف جمال باميان وسحر طبيعتها، وكنوزها من الآثار التي ظلّت سليمة على مرّ العهود وتعاقب الدول، وعلى الرغم من نوبة الجهل التي دفعتهم لهذا التدمير، فإن الأمر لم يسلم من نزعة طائفية أغرتهم بالعدوان على تلك المزارات السياحية التي يرتزق منها أهل باميان، المخالفين لطالبان في مذهبهم.
و يحتفظ السلفيون quot;الإسلاميونquot; بأواصر قربى في السلوك، مع نظرائهم من سلفيي المسيحيين القدامى، ففي العام 391م، أحرق مسيحيون متعصبون مكتبة الإسكندرية العامرة بنفائس الكتب والمخطوطات، توهموا بأن العلم هرطقة، وإن الفكر نافذة للشياطين، وبين ألسنة اللهيب واستغاثة الصحائف التي امتلأت بتعب السنين، لأناس نذروا حياتهم لري العقول بمداد المعرفة، نهضت عالمة جليلة، مع أتباعها، لتنقذ بعضاً من اللفائف من جحيم الحرائق، تلك كانت هيباتيا، عالمة الفلك والرياضيات والفلسفة ( 380-415م)، وهي أبنة ثيوس الكسندروس، العالم الفيثاغوري. هيباتيا المرأة التي تميّزت مع علمها الغزير، بجمال أخّاذ، أثارت حفيظة الكنيسة في ذلك الزمان، وخشي أسقف الإسكندرية كيرلس، من أن تصبح عائقاً أمام انتشار المسيحية، لما تثيره من أسئلة تحفّز الأذهان على البحث والإستقصاء عن حقيقة الإنسان في الكون، ووضع الكواكب بالنسبة للشمس، وما إذا كانت الأرض كروية أو مسطحة، وما الذي يبقيها سابحة في الفضاء. ويقال إن كيرلس في إحدى عظاته حرّض بشكل غير مباشر على التخلص من هيباتيا، ما دفع بجمهور مستمعيه الى التوجه للقضاء عليها. وكان المحقق والكاتب يوسف زيدان قد ضمّن روايته الثرّية (عزازيل) وثائق عن مصرع هيباتيا، وشرح بالتفصيل كيف اقتادها جمع من الرهبان الهائجين الى نهايتها المأساوية، كيف ربطوها وسحلوها وقشّروا جسدها بالأصداف، ثم قطّعوها وحرقوها وهي مازالت تنبض بالحياة. وينقل الدكتور وسيم السيسي، عن كتاب (تاريخ الفلسفة الغربية) لبرتلاند رسل/ الجزء الثاني/ص301، النصّ التالي عن واقعة اغتيال هذه العالمة التي طارت شهرتها في الآفاق وحضر دروسها طلاب من انحاء العالم، يقول رسل : quot;.. جرّوها جرّاً عنيفاً الى كنيسة قيصرون في الإسكندرية، ثم قاموا بنزع ملابسها حتى أصبحت عارية تماماً، مشهد بالغ الغرابة، وهم النسّاك الأطهارquot;، ويضيف : quot; ثم تقدم بطرس قارئ الصلوات وقام بذبحها.. ثم مزقّوها الى أشلاء ، وفي شارع سينارون أوقدوا ناراً وقذفوا بأعضاء جسدها وهي ما تزال ترتعش بالحياة، وكان الرهبان يتحلقون حول الجسد المحترق في مرح وحشي شنيعquot;. قتلوها لأنها آمنت بالفلسفة.
ولم تقتل هيباتيا لأنها عالمة باهرة التميّز فحسب، ومن جملة إنجازاتها،اختراع مقياس ثقل السائل النوعي (الهيدرومتر)، قتلت أيضا لأنها امرأة تجرّأت على دخول ميدان أريد له أن يكون حكراً على الرجال. وبعد مقتلها حظر على النساء العمل في التدريس، ومنع الناس من الإستماع اليهنّ. وما زال بعض المتعصبين من رجال الكنائس المسيحية المختلفة، حتى وقتنا هذا، يرفضون رسامة النساء في مناصب كنسية، فما أكثر التشابه إذاً بين الأشقاء من سلفيي الديانتين السماويتين، كلّهم تجتاحهم رغبة الإنتقام من النساء، فيبالغون في حجبهنّ، ويغالون في رواية الأحاديث التي تحثهنّ على ملازمة بيوتهنّ.
وما تقدم من مشاهد الذبح والحرق، تشبه الى حد كبير احتفالات الدم التي أقامها سلفيو القاعدة في العراق، وهم يقتلون الصحافية العراقية أطوار بهجت، ويحرقون شبّاناً وهم أحياء، يقطّعون الرؤوس وهم يكبّرون، كما تشبه غزواتهم في قرى الجزائر، واليمن، والصومال، إنها سمة التعصب، لا تعرف ديناً بعينه، هي الداء الذي لم يجد له طب الحياة دواء، ما أن يزول في عهد حتى يعود ليظهر بعد سنين أوعقود.
أختم هذه السطور بأبيات للشاعر المصري فاروق جويدة، ربما قالها وهو يتذكر شبّاناً وشابات، يحملون زادهم من الطموح والأمل، يطرحون تعب يومهم عند الشواطئ، وتنعشهم نسائم تداعب صفحة النيل، ذلك المسافر الخالد، تتحدث الكلمات بلغة العتاب quot; عتاب الحب للأحبابquot; :
وختاماً ما كان ظني أن تكون نهايتي
في آخر المشوار دمع عتاب
ويضيع عمري في دروب مدينتي
ما بين نار القهر والإرهاب
ويكون آخر ما يطلّ على المدى
شعب يهرول في سواد نقاب
[email protected]