تعد قضية الأمريكيين المتهمين فيlaquo; التمويل الأجنبيraquo; في مصر مؤشرا على أزمة سياسية أعمق بين أمريكا ومصر، وقد أخذت أبعادا وطنية عاطفية مصرية، وشكلت تحديا للقرار الوطني المستقل، وأوضحت الفرقَ بين منطلقات الدولة المصرية، (بما فيها المجلس العسكري)، الحريصة على علاقة استراتيجية، مع واشنطن، من جهة، والقوى السياسية الصاعدة، والرأي العام المصري الذي استعاد ثقته بنفسه، وأخذ يمارس دورَه الضاغط، من جهة أخرى، فضلا عن أن هذه الأزمة تمثل تحديا لاستقلالية القضاء.

كما تدل هذه الجهود التي تبذلها واشنطن للترويج للديمقراطية، والأموال التي تخصصها لذات الغرض، على جديتها في تعزيز مؤسسات المجتمع المدني، وترسيخ القيم الديمقراطية، وفق الرؤية الأمريكية. وقد تجد أمريكا نفسها مدعوةً اليوم أكثر، إلى تفعيل هذه القنوات، بعد غياب الرئيس السابق، مبارك، وبعد صعود الإسلاميين، ولكن الزيادة في الشيء كالنقصان فيه.

ومع ذلك فإن السؤال الأعمق، على المستوى الفكري والسياسي، هو عن المدى الذي يمكن أن تبلغه العملية الديمقراطية، مصريا، وعربيا، والفائدة التي تحققها أمريكا من التحول الديمقراطي.

ومن البَدَهيِّ أنَّ أمريكا لو ضمنت تحولا ديمقراطيا حقيقيا وكاملا، في العالم العربي، أو في أقطاره التي عرفت ربيع الثورات، فلا يظن عاقلٌ أنها تمانع؛ ذلك أن التشابه في المنطلقات الفكرية والقيم يعزز فرص التقارب والتعاون، على المستويات كلها.

ولكن المعضلة هي في اقتناع الكثيرين أن التحول نحو الديمقراطية في المجتمعات العربية سوف يقف عند حدٍّ لا يصل إلى جوهر القيم الغربية، وقد لا تعدو الديمقراطية أن تكون إطارا للحكم، وآلياته، وإدارته...وأما القيم والمفاهيم والقوانين فسيظلُ الفكر الديني، والقيم العربية المتأصلة مصدرَها الأكبر..وكيف لا يكون ذلك، ومعظم الأعضاء في المجالس النيابية التي سيكون لها دور فاعل في صياغة الدساتير من ذوي التوجهات الإسلامية؟

فالنظرة إلى المرأة وحرية الرأي والفنون، والسياسة التعليمية وغيرها من القضايا، وكذا التشريعات التي سيكون الإسلام في معظم البلدان المتحولة، إن لم يكن كلها، هو المصدر الأول والرئيس..مثل هذه التباينات ليس من السهل إغفالها أمريكيا وغربيا، وعلى الصعيد السياسي، فإن العداوة المبيتة لإسرائيل، والطموح المختبىء، أو المؤجل في دولة إسلامية عالمية، كل ذلك فروقات عميقة ومقلقة، من وجهة نظر العين الغربية.

ولكن برغم ذلك فإن أمريكا، لو لم تنجح في تحقيق نمط من الديمقراطية في العالم العربي يشابه النمط الغربي ومضمونه، فإن المقارنة بين نظم دكتاتورية رآها الكثيرون سببا غير مباشر للتطرف والإرهاب، وبين نظم توسع دائرة المشاركة، ربما يشجع على المغامرة بالمراهنة على الحكومات الجديدة، ولو انطوت على إسلاميين.. فلا بد من المقارنة بين خطر وأخطر، أو بين سيء وأسوأ.

فالنظم السابقة لفظتها شعوبُها، ولم تعد قادرة على حفظ استقرار المجتمعات، فبات استمرارُها ينذر بانفجاراتٍ أكبر، قد تخرج على السيطرة، فضلا عن كون تلك النظم، وهي العاجزة عن التخفيف من الفقر والشعور بالظلم، تدفع نحو مزيد من التطرف في صفوف الشباب العرب، وتُمدُّ مجموعات القاعدة، وما يقاربها بأسباب الحياة، وكلنا لَحَظ تراجع صوت القاعدة، في زحمة الحراك الثوري الذي عمَّ الطاقة الشبابية وأعاد توجيهها، سلميا، وحقوقيا، واجتماعيا.

لكن، في المقابل، فإن استعادة الشعوب العربية للحرية، ولو على المستوى الداخلي، قد يدعو واشنطن إلى طريقة جديدة في التعامل تأخذ في عين الاعتبار أن الحرية، ولا سيما عند الشعوب، والقوى الشبابية، لا تتجزأ، والشعب المصري المجروح بكرامته، منذ تلك العلاقة غير المُرْضِية التي اختَّطها نظامُ مبارك، مع أمريكا، وإسرائيل، سيكون أكثر حساسية لأي امتحان لكرامته.

ولو تصادم ذلك مع اعتبارات استراتيجية واقتصادية يتمسك بها، وينصاع لها المستوى السياسي الذي لا يزال يمسك بالقرار في مصر، ممثلا في الحكومة، والمجلس العسكري من ورائها.
فمن الواضح أن القوى التي باتت تشغل معظم مجلس الشعب والشورى لا تسير بالتوافق مع المجلس العسكري، ولا تمالىء السياسية الأمريكية، وهذا ما ظهر إلى العلن، حين هدد laquo;حزب الحرية والعدالةraquo; بإعادة النظر في اتفاقية كامب ديفيد، إذا قطعت الولايات المتحدة مساعداتها المالية لمصر.

ولو أرادت هذه القوى ذات المرجعية الإسلامية (وليست وحدها التي تشددت في موقفها من أزمة المنظمات غير الحكومية) لو أرادت، فَرَضاً، أن تجنح إلى الليونة، والمهادنة، فإنها ستخسر الرأي العام المصري اليقظ، بعد التسليط الإعلامي المكثف على الأزمة، ولذلك توعد، سعد الكتاتني، رئيس مجلس الشعب، بمحاسبة المسئولين عن تسفير الأمريكيين المتهمين، مهما كان شأنهم، أو مكانتهم.
والظاهر أن الواقع السياسي المتحول في مصر يربك الإدارة الأمريكية، كما يربك السياسيين القدامى في مصر، ولا تتبلور، للطرفين رؤية واضحة للتعامل معه، وهذه الخطوات التي يغلب الارتجال، أو جس النبض، قد تعقد الموقف، أكثر مما تحله، وقد تُعيد تغليب الاعتبارات الوطنية، على الاعتبارات الديمقراطية، ولا سيما، إذا أحس المواطن المصري والرأي العام هناك، فيها فوقية، أو صاحبها الابتزاز والتهديد.
[email protected].