قبل أيام احتفلت نساء العالم بيومهن التاريخي، والعربيات منهن اختلسن ساعات من الفرح، وشيئاً من النسيان لواقعهنّ المر، وما ينتظرهن من سنين مضنية تقتضيها تجربة الإسلاميين على أرض البرلمان. والدعاة السلفيون من أمثال وجدي غنيم والحويني، يعتبرون هذه الإحتفالات من قبيل البدع الضارة بأمن المجتمع، وربما يجدون المرأة نفسها بدعة ينبغي محاربتها بإسدال الستر الكامل عليها، فلا تبدو للناظرين ولا يسمع صوتها.
في غزوة غنيم لتونس في الشهر الماضي، وبين جمع من الشباب الذين حرمهم نظام بن علي من التعليم الديني الرشيد، فأصبحت عقولهم بعد التحرر منه، نهباً لدعاة المشرق، كما كان نظرائهم في جزائر التسعينيات، في تلك الغزوة، قال غنيم كلاماً مخجلاً عن النساء، وحكى لنا قصة الديك والفرخة، وأطلعنا على اكتشافه الباهر، بأن الله تعالى خلق الذكر والأنثى، وهما نوعان مختلفان!! ويبدو إنه لم يكن يعلم بذلك، إلا بعد ثورة تونس، فلما سمع بأخبارها، وبنهضة نسائها، شدّ الرحال اليها ليبيع بضاعته المدمّرة، وليستعين على جهل الشباب بالدين الصحيح، بأسلوبه الساخر والبعيد عن الرزانة. يتساءل quot;ببلاغةquot; نادرة : هل يمكن أن يتساوى الديك والفرخة، هل يمكن أن تحل المساواة بين الذكر والأنثى وهما لا ينتميان الى النوع نفسه؟ ثم يسخر بسماجة ممن يقولون بمشاعر الإخوة والإحترام بين النساء والرجال، فليس عنده من مقياس للتعامل بينهم، سوى الغرائز، وهو وأقرانه إذ يحرمون الإختلاط، وينكرون حق النساء في إبداء صورتهن التي خلقها الله على أحسن تقويم، ويعتبرون أزياءهن المحتشمة نوعاً من الفاحشة، ويسمونهنّ quot;الكاسيات العارياتquot; ولا يصح عندهم إلا النقاب، هم أنفسهم يدعون النساء الى إرضاع الكبار، ففي شريعتهم لا يجوز الحديث البرئ بين موظفة وزميلها في العمل، إلا بممارسة طقس جنسي هو الإرضاع!! وهم لا يقولون لنا ماذا تفعل المرأة التي جاوزت سنّ الإرضاع، كيف لها أن تبلغ درجة الحرمة على زميلها؟ هل هناك طقس آخر، وهل بعد حديث الإرضاع من إباحية يسقط معها كل قول عن الحجاب!!
ومما يتحفنا به بعض السلفيين، إنهم يقولون بجواز معاشرة الزوجة الميّتة للتو، أي استغلالها حتى الرمق الأخير وما بعده بقليل (حوار مع سلفي نشرته صحيفة الديلي ميل البريطانية)، وهم يعتقدون بالزواج من الجّن، ولهم شرط غريب بشأن كيفية تحضير سلطة الخضروات، فلا يجوز للمرأة أن تلمس الخيار، وينبغي أن يحضر رجل لتقطيعه وإعطائه للمرأة، ذلك خشية عليها من الفتنة!! وكان أمراء القاعدة في العراق، حين يستولون على بلدة معينة، يمنعون نساءها القرويات من بيع الخيار في الأسواق، إنه الهوس بالجنس الى حدّ المرض. هذه الأفكار التي تتجاوز نطاق الغرائز البدائية، هي الزاد الذي حمله الداعية وجدي غنيم، وقدمه كوجبة ثقيلة الهضم، الى شباب تونس، من الإسلاميين المبهورين بحريتهم الدينية، بعد طول كبت وتغييب.
ما السر في هذا السكن المقيم في جسد المرأة؟ إن بعض الدعاة ليشتهون حتى بناتهم، ففي العام الماضي طلع علينا أحدهم بفتوى تقول بحرمة مجالسة البنت لأبيها إلا بوجود الأم!! فيا لهول الظنون الفاسدة، لم تبق لنا من فضاء للبراءة إلا وقتلته. في اعتقادي إن السر يكمن في تجاهل السلفيين لعقل المرأة، وتجاهلهم أيضا لعقل الرجل، فهم لايجدون في الرجال الذي أسهم بعضهم في بناء حضارات راقية، من علماء وأدباء وفلاسفة، بل وحتى من علماء الدين، لا يجدون إلا أجساداً متهافتة، مشحونة بالتوق الى الجنس في كل لحظات يومها، لا ترتوي حتى لو اجتمعت لديها كل الفرص، فمن أربع زوجات، الى ملك اليمين، الى ما لا حصر له من الزيجات العرفية، والمؤقتة، وزيجات المسفار والإصطياف وو.. الخ. والسؤال أين العقل يا ترى، أما من فسحة للتفكر بخلق الله، وإذا كان كل همّ الرجال متابعة أجساد النساء، فكيف تسنى لهم أن يؤسسوا ما تفخر به البشرية من مخترعات وجامعات ومكتبات وغير ذلك، ولو لم تكن المرأة مزيجاً رائعاً من العقل والجسد والحظور المدهش، لما عرفنا نماذج باهرة من النساء عبر العصور، فهذه غزالة الحرورية (نسبة الى حروراء من قرى العراق) ترهب أعتى الطغاة في تاريخ المسلمين، الحجّاج بن يوسف الثقفي، فيتحداه الشاعر عمران بن حطّان، أن ينزل لمبارزتها، ويخاطبه :
أسد عليّ وفي الحروب نعامة
فتخاء تنفر من صفير الصافر
هلاّ برزت إلى غزالة في الوغى
أم كان قلبك في جناحي طائر
ولولا عقل النساء لما كانت خديجة الكبرى خير سند للدعوة الإسلامية، ولا أم سلمة التي استشارها الرسول (ص) في مأزق الحديبية، وعقل المرأة كان دائماً محط تقدير المصريين، حين يتوجهون الى مقامي السيدة زينب والسيدة نفيسة، العالمة والفقيهة، ثم إن دعاة السلفية ينسون إنهم ينقلون كثيراً من الأحاديث النبوية الصحيحة عندهم، بسند نسائي، فلو كانت النساء أجساداً فحسب، فستضيع عليهم تلك الأحاديث، وبخاصة حديث إرضاع الكبير!!
ومما يدعو الى الدهشة إن غلاة المتشددين يصورون لنا معتقداتهم كما لو إنها صحوة ونبذ للبدع، ولا ينتبهون بأنهم يخرجون على ما تعارف عليه المسلمون وفقهاؤهم من إجماع، وبذلك يرتكبون بدعة لا نظير لها، وإذا قارنّا أعداد السلفيين في مصر بعدد المتصوفة ويقدّرون بالملايين، سنجدهم قلّة ما يلبث زمنهم العارض أن ينتهي، لكن هذا يتطلب ترقية الوعي الإسلامي، ولا أفضل من تصدّي السنّة أنفسهم الى الفكر السلفي، لأن التعارض وإن كان شديداً بينهما فإن أغلب المنطلقات متشابهة بخاصة فيما يتعلق بالصحابة وزوجات الرسول (ص). أما بالنسبة للشيعة فإن الصراع بينهم وبين السلفيين، صراع حياة أو موت فهم يتقرّبون الى الله في قتل الشيعة، لذلك لا أمل في حوار بينهم. و الجهات الدينية في مصر، من مؤسسات وطرق صوفية، هي المعوّل عليها في تفنيد دعاوى السلفيين، والحيلولة دون تغوّل أفكارهم وممارساتهم، في بنية المجتمع المصري، ومنه تصديراً الى تونس والجزائر والمغرب، ولا أقول دول المشرق لأن لديها ما يكفيها، وما صدّرته لأفغانستان وباكستان والعراق، خير شاهد.
إن ظاهرة السلفية بوصفها المتشدد، كما نعلم لا تقتصر على الإسلام، فقد عرفتها المسيحية واليهودية، ولكن الملاحظ إن المسيحية استطاعت بجدارة أن تحقق الفصل بين ما هو ديني وما هو دنيوي، فكفلت بذلك الإحترام والمحبة لرموزها، وأبعدتهم عن دائرة القدسية، فلا تقوم الدنيا ولا تقعد إذا ما قال أحد المسيحيين قولاً معارضا لرأس الكنيسة، بل حتى لو جرى التطاول على السيد المسيح نفسه، وما كان من التاريخ من عنف ديني وحروب ايمانية مذهبية، أصبح موقعها في أدراج الكتب العتيقة، دون أن تمسّ حياة الناس وأمنهم. وحتى المجتمع الإسرائيلي الذي يحظى المتشددون فيه بسلطة معنوية كبيرة، ولهم ثقلهم السياسي، فإن الناس هناك أحرار في الخضوع لهم في قضاياهم الأسرية، لأن لديهم بدائل مدنية، فهل هذا هو حالنا كمسلمين؟
أن ما حفظ هيبة الكنائس في العالم المسيحي، هو استقلالها عن الدولة ككيان سياسي، فلا هي مسؤولة عن التشريع، ومتداخلة مع مراكز القرار، ولا الحكومة قادرة على التدخل في نشاطها الدعوي المسالم والخيري، طالما هي تخضع للقانون، وبهذه المعادلة من الإحترام المتبادل، نجت المسيحية المعاصرة من التطرف، والعودة الى حروب السلف.
ليتنا كمسلمات ومسلمين نحظى بالتطور الذي شهدته معظم الكنائس في العالم، حيث تحظر النساء في المناسبات الدينية، الى جانب الرجال، وليس خلفهم، يجلسن بوقار وبأزياء لا تخفي تميّزهن كنساء، لا يشعرنّ بأنهنّ مخلوقات من الدرجة الثانية، كما هو شعور المسلمات حين يجبرن على الصلاة خلف الرجال، ومن تتساءل منهنّ أو تعترض، يقال لها إن صليت بجانب الرجل سيلتفت اليك، وإن صليت أمامه سينظر الى خلفيتك، حتى وأنت مغطاة بالكامل، فأي صلاة هذه، وأي مؤمن هذا الذي يصلي وعينه على المرأة، أليست الصلاة صلة مع الرحمان، فكيف لهذه الصلة الروحية أن يقطعها عارض مادي هو مظهر المرأة؟ إنهم لبائسون حقاً أولئك الذين يخافون من النساء حتى وهم في حضرة خالقهم.