حين لا تحسّ بشعبك وهو في قلب المحرقة، أيُّ معنىً يتبقّى لكَ من عمرك الذي صرفته في الثقافة أيها المثقف؟
إن كان من حسنةٍ لهذا quot;النجيع العربي الطويل في سورياquot; (بلد التراجيديا الحديثة)، فهو أنها كشفت مستور بعض المثقفين العرب، قبل أن تفضح دمويّة وفاشيّة رءوس النظام الطائفي في جبل قاسيون.

لم نكن نحن المواطنين العرب، من الملح إلى الملح، بحاجةٍ لناعورةِ الدّم هذهِ، كي نعرف حقيقة ذلك النظام البشع، الممعن في الجريمة، ابناً عن أبّ. فهو كان معروفاً وquot;مكشوفاًquot;، لكل من لديه فتاتُ عقلٍ نقديّ تحت شعر رأسه. لكنّنا كنّا بحاجة لكل هذا الدمّ (للأسف الشديد) كي نعرف حقيقة بعض مَن اعتبرناهم يوماً، رموزَ تنويرٍ وتثوير في ثقافتنا المعاصرة.

نعم. كنا بحاجة لكل هذا النّجيع، كي نعرف كيف يفكّر أدونيس (الذي سمّيتُ ابني الأوسط على اسمه)، حليم بركات، كمال أبو ديب، نزيه أبو عفش، فراس السواح، من السوريين. وسعدي يوسف من العراق، وعادل سمارة من فلسطين، وسواهم.
لقد صدمت بمواقفهم وتبريراتهم.

جزء منهم يريد ثورة على مقاس أفكاره واجتهاداته، فإن اختلفت الثورة الحاصلة في الميدان، عن هذا الجزء أو ذاك من تلك الأفكار الجائلة في دماغه، أشاح عنها، وشكّك فيها، واكتفى بذلك موقفاً ndash; أدونيس، حليم بركات، كمال أبو ديب.

وجزء آخر، هو ضدها منذ البداية، لأنها نتاج مؤامرة استعماريّة غربيّة، الرابح منها فقط هم: إسرائيل والغرب ومشيخات الخليج ndash; نزيه أبو عفش، سعدي يوسف، عادل سمارة.

وجزء ثالث، قال كلمة باهتة هنا، وكلمة خافتة هناك، ثم آثر الانسحاب من quot;حلبة الجنونquot; حتى يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسودndash; فراس السواح.

والحال، أن هؤلاء وأولئك، فاجأتهم ثورة الشعب الأعزل الشجاع، ففاجأونا هم بما كتبوا، فإذا هو يقصُر (لا أقول عن فهم، فلا أحد منا يزعم فهماً أكثر من فهمهم) بل عن تحسّس أماني وآمال هذا الشعب الذي اجترح معجزةً، كانوا وكنّا نشكّ قبلاً في أنه قادرٌ عليها.

يا أدونيس، حليم، كمال، نزيه، فراس: يا أصدقاء الكلمة التي نحبّ: نفهم ما تقولون، فنحن مثلكم، نريدها ثورة على ثقافة برمّتها، لا مجرد ثورة على رأس نظام. ونحن مثلكم، نريدها ثورة كما أرادها جان جاك روسّو قبل قرنين ونصف، لكن هذا لا يمنعنا من الوقوف بجانبها، انتظاراً لما بعدها أو حتى لما بعد بعدها. ولا يمنعنا من الانحياز لها، وهي في أوج عنفوانها ومعمعانها، حتى لو وقف معها استعماريّون ومزوّرو تاريخ ومشايخ أنظمة quot;ما قبل الدولquot;.

وهادينا في كل ذلك، بكل بساطة، أننا مع شعوبنا المظلومة ضد حكّامها الظالمين.
أننا مع الجَرَيَان ضد الاستنقاع.
مع العصر الحديث ضد العصور الوسطى.
مع المتحوّل ضد الثابت.
مع الدم ضد السيف.
يكفي هذا الموقف الأخلاقي والمبدئي، هنا والآن. وهناك، وفي كل آن.

لا نريد مزيداً من التنظير والاجتهاد (على ما لهما من ضرورة وأهميّة بالغة)، إن كان هذا سيحجب الموقف الأساس من هذه الثورة، وإن كان هذا سيشوّش على ذلك المهاد الأخلاقي الأصيل تجاهها. وإن كان هذا - أخيراً - لا يناسب ولا يلتقط مزاج اللحظة المثقلة بنقيع الدم.

وإلا، فهي المحرقة لكم ولنا.
وإلا فهي اللعثمة (في أفضل النوايا) أمام دم الضحايا. والخرس قدّام حربة الجلاد.
وهذا لا يليق بمثقف.
بل لا يليق بمطلق آدمي، يا أوادم.
أما سعدي يوسف وعادل سمارة، اللذان نحبهما يقيناً، فنتمنّى للأول أن يخرج من سرير بروكست الإدلوجي، في مُعتكفه الريفي بلندن، كي لا يدخل صندوق باندورا الرهيب. ونتمنّى للثاني، الواقع تحت أبشع احتلال كولونيالي عرفته الأزمنة الحديثة، أن ينصت لقلبه، بعد أن خذله عقله، وأن يقارن بين ما يفعله الاحتلال الصهيوني بشعبه في الضفة وغزة، وما يفعله شبيحة الأسد بشعبهم في بابا عمرو وإدلب.

وسلامٌ لكم جميعاً، وعلى أهل سوريا السلام.