الحدث الأكثر إثارة وقلقا وتساؤلا في فرنسا في هذه اللحظات، والذي يقع خلال حملة انتخابية رئاسية ساخنة، هو عملية اغتيال مجرم قاعدي لثلاثة من المظليين الفرنسيين وإصابة رابع، وهم مغاربيون؛ وبعد ذلك الهجوم على مدرسة يهودية وقتل ثلاثة أطفال ومدرس من حملة الجنسيتين الفرنسية والإسرائيلية. وطوال يوم الثلاثاء [20 منه] كانت التخمينات تتضارب عن هوية المجرم [ أو المجرمين]، وعن الدوافع، علما بأنه تأكد أن التنفيذ كان انفراديا.
لقد دعا رئيس الجمهورية الفرنسية لعدم استغلال الحدث انتخابيا، باعتباره مأساة وطنية شاملة، وهذا ما حاول المرشح الاشتراكي مسايرته. ولكن مرشحا مثل بيرو استغل الحدث للطعن بصورة غير مباشرة بسركوزي من جهة إثارة الأخير وحكومته الحديث عن مشكلة الهجرة، وكأن هذا الحديث يشجع الإرهاب أو يطمس عواقب عدم وضع روابط للهجرة ومكافحة الهجرة السرية. وكانت غالبية الظنون متوجهة لاتهام النازية الجديدة، مما جعل السلطات تضع المراكز الدينية الإسلامية واليهودية تحت حراسات مشددة. ويذكر أيضا أن المرشح الاشتراكي سبق أن تعهد بحذف كلمة quot;عنصرquot; [ عرق أو أصل] من الدستور ndash; أي لا يقال مثلا: إن المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن العرق واللون والدين والجنس، ألخ. وهذا مجرد تبسيط وتسطيح لظاهرة العنصرية، وعلما بان بنود الدستور كانت حتى اليوم محط إجماع كل الطبقة السياسية الفرنسية.
أما بعد يوم واحد لا غير[ اليوم الأربعاء 21 منه]، فقد ثبت أن عملية الاغتيالات هي عملية قاعدية بامتياز باعتراف مقترفها الجزائري الأصل، الذي هو محاصر من الشرطة ساعة كتابة هذه السطور[ أواخر عصر الأربعاء]. وكان المجرم مراقبا مع جماعة من السلفيين، وسبق أن كان في أفغانستان وباكستان، كما كان قد اقترف جرائم حق عام في فرنسا نفسها. وهو لحد الدقيقة محصن نفسه وراء باب السكن ويتكلم منذ الفجر مع البوليس عن عقيدته السلفية القاعدية ويرد عليهم بالرصاص. وهم يريدون إلقاء القبض عليه حيا. وقد برر جرائمه الهمجية بالقضية الفلسطينية وحرب أفغانستان، وغير ذلك من الذرائع التقليدية لمجرمي الإرهاب الإسلامي، واعدا بالشهادة لا الاستسلام [ليدخل الجنة ويضاحع الحور العين والغلمان!] وفي رأيي أن استهداف مجندين فرنسيين مسلمين بالذات كان مقصودا وكأن منطق المجرم، ومن وراءه، هو: quot;أمسلمون وتخدمون في جيش الكفار؟!quot;- أي وجوب قتل مسلمين quot;سيئين يخدمون العدوquot;. وهو ما شوهد أيضا في بريطانيا من استهداف جنود باكستانيين في الجيش البريطاني العائدين من العراق.
أما عن ردود الفعل السياسية فإن سركوزي دعا للتهدئة وعدم خلط الأمور والقضايا، والمرشح الاشتراكي وعد بمكافحة الإرهاب، وهو ما لم يتطرق له خلال شهور حملته الانتخابية. والمرشح بايرو أراد تصحيح نفسه فنسب الحدث إلى quot;إقحام حروب لا علاقة لنا بهاquot;، وكأن القضية الفلسطينية أو حرب أفغانستان- باشتراك عسكري فرنسي- لا علاقة لهما بمصالح ومبادئ دولة كفرنسا! وقالت مرشحة اليمين الشعبوي مارين لوبين [ تخمن الاستفتاءات حصتها من أصوات المقترعين ب 16- 17 بالمائة] إنها سبق أن حذرت مرارا من مخاطر التطرف والإرهاب الإسلاميين ولكن أحدا لم يهتم بالأمر.
الوقت مبكر لتوقع تداعيات هذا الحدث على الساحتين الفرنسية والأوروبية. ولكننا نرى أن من المتوقع أن يشغل موضوع الأمن عامة، وخاصة دور المسلمين وموقفهم من التطرف الإسلامي في فرنسا، مكانا في الحملة الانتخابية للرئاسية الفرنسية. ويذكر أنه سبق الحدث ما أثار بشكل أو آخر موضوع الجاليات الإسلامية، سواء بالحدث عن اللحم الحلال أو عن عدم تعادل الحضارات في العطاء. وقد حاول اليسار الفرنسي بالمناسبة استثارة غضب المسلمين ضد مرشح الأكثرية البرلمانية، سركوزي، ولكسبهم انتخابيا. ونعرف أن اليسار الغربي، والفرنسي خاصة، وبعض دعاة حقوق الإنسان الغربيين، يشجعون عادة تقديم الحكومات والبلديات للتنازلات أمام مطالب الجاليات المسلمة، التي قد تكون على حساب العلمانية الغربية، كالسماح بالنقاب، وعدم حظر الحجاب في مدارس الدولة، وعزل الرجال عن النساء في الحمامات العامة، وتقديم ما يعرف باللحم quot; الحلال quot; للتلاميذ المسلمين، والصلاة في الشوارع، ألخ. وذهبت منظمة quot; حقوقيةquot; إيطالية منذ أيام لحد المطالبة بحظر تدريس quot;الكوميديا الإلهيةquot; لدانتي بحجة أن فيها ما يسئ للإسلام، متجاهلين السياق والظروف التاريخية. ولو سار الغرب بهذا المنطق لجرى حظر تدريس بعض مسرحيات شكسبير أيضا لأن فيها شخصية اليهودي الطماع شيلوك، وربما مؤلفات فولتير وغيره. ولكن كم في بعض المراجع الأدبية العربية من إساءات لغير المسلمين، ناهيكم عن فتاوى بعض الفقهاء ولحد يومنا هذا؟! وهذا الدور السلبي لليسار ولبعض المنظمات الإنسانية الغربية، يلتقي مع استغلال المتطرفين والأصوليين الإسلاميين في الغرب للحريات الغربية ولعلمانية الغرب التي تفسح المجال واسعا أمام الحرية الدينية والحريات الأخرى. وسبق للباحث الأكاديمي الفلسطيني الأستاذ خالد الحروب أن عنون مقالا مهما له في صحيفة الحياة هكذا: quot; العلمانية في الغرب تشنق نفسها بحبل حرياتها.quot;[ الحياة في 18 نيسان 2010 ]، قاصدا العلمانية الديمقراطية الغربية اللبرالية، التي بانتصارها الدائم للحرية quot; تصبح وكأنها غير آبهة بأن يمتد حبل أعدائها ويطول حول عنقها ويشنقها فعلاquot;، وبحيث يستطيع دعاة العنف والإرهاب في هذه الدول التحريض على العنف وتبرير الإرهاب بلا ملاحقات، وإذا لوحقوا قضائيا، انبرت محكمة الاتحاد الأوروبي لحقوق الإنسان بالانتصار لهم [ حالة أبي قتادة في بريطانيا كمثال].
ونرى بمناسبة الحدث الفرنسي المذكور التوقف بعض الشيء لدى كتب ودراسات غربية صدرت خلال العام المنصرم في فرنسا عن موضوع الهجرة و محل الإسلام والمسلمين في فرنسا وأوروبا، ومدى تأثير التنازلات للمطالب المتزايدة للجاليات المسلمة على هوية فرنسا ووجه أوروبا.
من بين الكتب الهامة بهذا الشأن صدور ترجمة كتاب الباحث الأميركي كريستوفر كالدويل، الصادر عام 2009

بعنوان quot; تأملات عن الثورة في أوروبا....quot;Christopher Caldwellhellip;..Reflections on the revolution in Europehellip;...
أما الترجمة الفرنسية فجاءت بعنوان quot; quot; ثورة أمام أعيننا... كيف سوف يغير الإسلام فرنسا وأوروباquot;.
الكتاب المهم الثاني هو للباحث الفرنسي كلود سيكارquot;. وقد صدر عام 2011 بعنوان

quot; الإسلام مجابها الديمقراطيةquot;. Claude Sicardhellip; L-islam au risqe de la deacute;mocraitie
وفي المقال التالي سنمر على بعض نقاط هامة ومثيرة في الكتابين وفي مقالات أخرى، علما بأن أية صحيفة فرنسية لم تشر لصدور كتاب كولدين باستثناء الفيغارو وquot; فالير أكتويلquot;. وهذا بحد ذاته ذو مغزىK ويعزز حكم المؤلف بأن الأوروبيين لا يعيرون الموضوع الأهمية اللازمة إما عن عدم استيعاب عميق، أو خوفا من الإثارة، أو لكسب الأصوات.