بعد تفجّر الوضع بين quot;عراق بغدادquot; وquot;عراق هوليرquot; وتأزم العلاقة بينهما، بدأنا نسمع أصوات القادة الكرد ترتفع من جديد، هنا وهناك، ملوّحةً بإعلان دولة كردستان، وإنفصالها عن بغداد. ودائماً رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني، هو أول من يطلق هذه التصريحات ويستخدمها كورقة ضغط على الحكومة المركزية، لتحقيق ما يمكن تحقيقه لإقليمه.

هذه ليست المرّة الأولى، التي يلوّح فيها بارزاني بإعلان دولة كردستان، وقطع علاقتها كquot;كيان مستقلquot;، نهائياً، مع بغداد. بعضٌ من هذه التصريحات، كلّفته خلال السنوات الماضية، الكثير من وجع الرأس، والخسائر الديبلوماسية، والإنتقادات الحادة، والتهديدات المضادة، فضلاًُ عن أنها كلفته على الجبهة الكردية، الكثير من المصداقية والتأييد اللذان كان يمتلكهما.

التهديد ذاته بفصل كردستان ذاتها عن العراق ذاته، تكرّر خلال العقد الأخير(أي بعد سقوط quot;عراق صدامquot; في 09.04.2003)، على لسان بارزاني الرئيس، مرات عديدة، لعل أكثر هذه التهديدات حدةً وناريةً، كانت تلك التي أطلقها في كانون الثاني 2009، وشباط 2007. بارزاني، هدد في إحدى هذه التصريحات الخارجة على أصول الكلام الديبلوماسي، بquot;التدخل في شئون شعب كردستان في تركيا، إذا اعطى الاتراك الحق لانفسهم بالتدخل في شأن كركوك والتركمانquot;(تصريحاته لقناة العربية في 26 شباط 2007)، ما أدى في حينه إلى غضبة تركية عنيفة، فجرّها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، بتهديدٍ مضاد، قائلاً: quot;على الأكراد العراقيين أن يكونوا حريصين للغاية في انتقاء كلماتهم، وإلا ستسحقهم هذه الكلمات..بارزاني تجاوز حدوده ثانيةًquot;.

قبل شهرٍ أو يزيد، عزف بارزاني على ذات الوتر القومي، مبشراً أكراده بمناسبة أعياد نوروز، بإعلانٍ قريبٍ ووشيك جداً لquot;دولة كردستانquot;. لكن نوروز مضى، دون أن يحمل معه حلم الأكراد في كيانٍ مستقلٍ، والذي طالما وعدهم البارزاني به، في أكثر من وعدٍ ووعيد.

هذه الأيام، بتنا نسمع من القادة الكرد ذواتهم، وعلى رأسهم البارزاني التهديد ذاته، باللجوء إلى طرح حق انفصال كردستان عن العراق على الإستفتاء الشعبي.
والسؤال الذي يطرح نفسه، ههنا، كما دائماً، هو: هل البارزاني وشركاؤه في الحكم والملك، جادّون فعلاً، في إعلان كردستان quot;دولةً مستقلةquot;؟

قبل الإجابة على هذا السؤال المفصلي، على مستوى العلاقة بين كردستان وعراق(ها)، لا بدّ من القول، بأنّ الأزمة التي تفجّرت مؤخراً بين العراقَين quot;عراق بغدادquot; وquot;عراق هوليرquot; هي أزمة كثيرة، قديمة جديدة. الأزمة بقديمها، متجذرة في العقلين العربي والكردي على السواء، ليس على المستوى السياسي فحسب، وإنما على المستوى التاريخي والثقافي والسوسيولوجي أيضاً. ما يعني أنّ أزمة الثقة المستدامة بين العراق العربي والعراق الكردي، هي ليست أزمة سياسة فحسب، بل هي أزمة تاريخ وثقافة واجتماع أيضاً.

أما الأزمة بجديدها، فهي أزمة إقليمية بإمتياز، لا بل دولية، تفجّرت بملامح عراقية. أيّ هي بالدرجة الأساس أزمة صراع بين quot;الهلال الشيعيquot; وquot;القمر السنيquot;، والتي نشهد أعنف فصولها الدموية، الآن، في سوريا. يبدو أنّ هولير التي نجحت عراقياً، حتى الآن، في النأي بنفسها عن الصراع الشعي السني، وانتصرت في كلّ تحالفاتها مع بغداد، لقوميتها ضد طائفتها، لم يعد بمقدورها الوقوف موقف الحياد عمّا يجري في المنطقة، من تجاذبات سياسية واستقطابات طائفية، سيّما وأنّ حليفها الشيعي الإستراتيجي في بغداد، ترك الكثير من الملفات عالقةً مؤجلةّ إلى أجل غير مسمى، وعلى رأسها ملفات البيشمركه والنفط والميزانية والمادة 140.

هولير المتحالفة راهناً مع الشيعة في بغداد، يبدو أنها ليست مستعدةً أن تدفع من وراء هذا الصراع، فاتورة رئيس الوزراء العراقي وحلفائه الإيرانيين في دمشق، بدون مقابل. من هنا يمكن قراءة تبدّل موقف رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني من الأزمة السورية، وتحوّله من quot;الحياد السلبيquot; وquot;اللاتدخلquot; سابقاً، إلى لاعب فاعل فيها لاحقاً، وذلك عبر إستخدامه للورقة الكردية السورية، وتوحيده لصفوف أكراده تحت مظلة quot;المجلس الوطني الكردي في سورياquot;.

إلى جانب ملف حزب العمال الكردستاني، الحاضر في جميع مباحثات الجانب التركي مع قادة كردستان العراق، كانت الأوضاع الطائفية المتوترة والمتدهورة في سوريا، وما تبعتها من توترات طائفية في العراق، على ما يبدو، إحدى أهم النقاط التي ناقشها أردوغان مع بارزاني في زيارته الأخيرة إلى أنقرة. اتهام إردوغان نظيره العراقي المالكي بعد اجتماع إسطانبول مع بارزاني بquot;إذكائه التوترات الطائفية بين الشيعة والسنة والأكراد في العراق من خلال تصرفاته مع شركائه في الائتلاف الحاكمquot;، يعني أنّ مسألة الصراعات والإستقطابات الطائفية في المنطقة بعامة، والعراق بخاصة، قد شغلت حيّزاً كبيراً من المحادثات بين أردوغان وبارزاني.

ومن المتوقع جداً أن تلقي نتائج هذه الزيارة، التي وّصفت على المستويين الكردي والتركي بquot;الإيجابيةquot;، بظلالها على العلاقة المتوترة، راهناً، بين المجلسين quot;الوطني السوريquot; وquot;الوطني الكرديquot;، وذلك بحكم تبعية الأول لتركيا، وتأثير بارزاني الكبير على الثاني.

ليس سرّاً أنّ الأكراد يحلمون منذ تاريخٍ كثيرٍ مضى، في جهات كردستانهم الأربعة، بquot;تأسيس دولة كردية مستقلةquot;، وهذا حق طبيعي ومشروع لهم، بأن يقرروا مصيرهم بأنفسهم، كأكبر شعبٍ في العالم، لا يزال يعيش على أرضه التاريخية، بدون وطن. لكنّ حلماً كهذا، لا يزال يعترض طريقه، في المدى القريب على الأقل، الكثير من السياسة والتاريخ والجغرافيا فضلاً عن الكثير من الديموغرافيا.

تركيا التي بلغ حجم التبادل التجاري العام الماضي مع العراق كثاني أكبر شريك تجاري لها بعد ألمانيا، 12 مليار دولار، أكثر من نصفه مع كردستان، ستقف بالمرصاد قبل بغداد، ضد أيّ خطوة أو quot;مغامرةquot; كردية من هذا القبيل. قيام كيان كردي مستقل، ولو في quot;جنوب إفريقياquot;(كما تقول تصريحات بعض الفوق التركي المسؤول)، هو بالنسبة لتركيا خط أكثر من أحمر. من هنا، يحذّر المسؤولون الأتراك أكراد العراق، على الدوام، من مغبّة أي محاولة للإنفصال عن العراق.
كردستان الآن، التي تربطها مع تركيا، أكثر من علاقة ارتباط، وعلى أكثر من مستوى، لا يمكن لها أن تقرر مصيرها بالإنفصال عن العراق، بدون تركيا الرافضة في كلّ الأحوال، لأيّ كيان مستقل للأكراد، أينما وكيفما كان. هذا من جهة.

أما على المستوى الدولي، فلا ننسى أنّ أميركا رغم علاقاتها الجيدة مع القادة الكرد، وعلى رأسهم البارزاني، وتفهمها إلى حدّ كبير لحقوقهم القومية المشروعة، إلا أنها لا تزال تعتبر ضم كركوك لكردستان، وانفصال هذه الأخيرة عن العراق، خطّان أحمران، لا يمكن للكرد تجاوزهما.

بارزاني ومعه القادة الكرد الآخرون، يعلمون جيداً أنّ أي محاولة للإنفصال عن بغداد، الآن، ستعني خسارة كردستانهم ل17% من العراق، هذا ناهيك عن خسارتهم لكركوك المتنازع عليها، والتي اتُفق عليها، على أكثر من صعيد ومستوى، أن تكون إقليماً في العراق لكلّ العراق، أكثر من كونها إقليماً كردياً في كردستان ولكردستان، الأمر الذي يمكن أن يعيد الأكراد إلى المربع الأول وربما الصفر، ويعودوا quot;أصدقاء للجبالquot; كما كانوا، على حدّ تحذير أكثر من مسؤول أميركي.

كردستان كشبه دولة، في العراق ومعه الآن، لو أحسن الأكراد استخدامها، هي نعمة، بعكس الإنفصال الذي سينقلب عليهم إلى نقمة.


عليه فإنّ تلويح بارزاني الأخير، كما دائماً، بquot;الإنفصالquot; عن العراق، هو تهديدٌ فيه من الحلم الكردي والشاعرية السياسية، كما قالها رئيس العراق جلال طالباني ذات مرّة، أكثر من الواقعية السياسية، ومن القول والحماس القوميين، لغرض الإستهلاك السياسي المحلّي أكثر من الفعل والعزم السياسيين، لأنّ أيّ خطوة في هذا الإتجاه، راهناً، والبارزاني يعلم قبل الكلّ، سيعني انتحاراً سياسياًَ ما بعده انتحار، هذا فضلاً عن أنّ وجود كردستان في العراق، من وجهة نظر براغماتية، يخدم أكرادها الآن أكثر بكثير من عدمها فيه أو انفصالها عنه.

ليس لكردستان، الآن، إن أرادت أن تبقى، من أكرادها لأكرادها، إلا أن تكون عراقاً كردياً، يعيش جنباً إلى جنب مع العراق العربي، كما ليس للعراق، إن أراد أن يبقى، إلا أن يكون عراقاً متعدداً وكثيراً: جغرافيا واحدة بتاريخ كثير، وسياسة كثيرة، وثقافة كثيرة، واجتماع كثير، ودين كثير.


هوشنك بروكا

[email protected]