لازال مفهوم العصيان المدني كحق أساسي من حقوق المواطنة غير متبلور في أذهان كثير من أفراد المجتمعات العربية، بما فيها تلك التي تشهد ثورات وحراكًا حقوقيا، فثقافة الطاعة التي ألفتها تلك المجتمعات وتجذرّت في كافة المناحي التربوية منذ ولادة الانسان بدءًا من بيته مرورا بالمدرسة وصولا الى العمل تصور quot;العصيانquot; على أنه خطيئة، كما أن المؤسسات الدينية برمتها تصور الخروج عن اي من الإلتزامات جريمة تستوجب القصاص.

وفي دولنا العربية كما سائر الدول التي تعتمد انظمة quot;مغلقةquot; يصعب تحقيق العصيان المدني، اذ انّ الدولة المدنية غير متحققة في ظل انظمة الحكم القائمة، كما ان مفهوم المواطنية غير متبلور في عمل المؤسسات الرسمية، لذلك فان الأمر يستوجب نشر الوعي بالحقّ المدني والعدالة أولا لدى فئات المجتمع.

البداية تكون عبر طرح مفهوم اللاتعاون مع شتى أشكال الظلم و انحراف العدالة، فعوضًا عن الاضراب التام عن العمل كما في حالة العصيان المدني بالامكان طرح طريقة لاتعاون غير المباشرة. وبدلاً من رفض طاعة التوجيهات بشكل صريح ومباشر بالامكان تحييد تنفيذ الاوامر عن مسارها، وهو ما طرحه المفكر اللاعنفي جون ماري مولر في قاموس اللاعنف حيث اعتبر ان ذلك يتميز بأنه : quot;يمكن تنفيذه في مرونة، وهو يتفادى التسبب في تحريض القمع علنًا، أو يؤخِّر هذا القمع على الأقل أطول فترة ممكنة. وهذا يسهل مواصلةَ المقاومة وتوسيعَ مداها في آنٍ واحد. quot;

ان الأنظمة الديموقراطية تعتبر quot;العصيان المدني quot; والتظاهر حقًّا ثابتا ومشروعا بيد ان معظم الانظمة التوتاليتارية تصنف المتظاهرين على انهم مجموعات خارجة على القانون تستوجب التأديب. ومن هنا ينبغي ان نوضح للرأي العام اشكالية القانون والعدالة. فالقوانيين قد لا تكون عادلة؛ والاستبداد يتحكم برقاب البشر بحجة تنفيذ قوانين وضعها لابقاء الشعوب في طور الطاعة التامة دون اشراكهم في تطوير دساتيرهم وقوانينهم بما يتلاءم مع انسانيتهم وتطورهم الحضاري.

ويرى الانسان العربي المعاصر نفسه مضطهدا وهو يعاني من تراكم مزمن للمظالم وتجذرها العميق في بنية المجتمع وسلوكيات الأفراد، سواء كانت تلك المظالم سببتها أنظمة داخلية رديئة بشكل مباشرام كانت مظالم خارجية سببها المحتل العسكري بقوة الحديد والنار وسفك الدماء، الأمر الذي دفع بالسواد الأعظم من ابناء تلك الشعوب نحو الثورة. غير أن تجذُّر المظالم هذا، يعود بالدرجة الأولى إلى قبول أعضاء المجتمع وتواطؤهم بل وقبولهم وتعاونهم مع مضطهديهم وقامعيهم.

رؤية اللاتعاون تتمحور حول وقف عملية quot;تمسيح الجوخ quot; تجاه أي سلوك ظالم وغير عادل الذي يمارسه معظم أعضاء المجتمع المتعاونيين مع الظلم القائم، وهو أمر استطاع غاندي ndash; على سبيل المثال - أن يقدمه لأبناء شعبه ممن ذاقوا الأمريّن من أوضاع أقل ما يقال فيها انها مزرية ولا إنسانية وذلك من خلال ممارسة ضغط اجتماعي وعملي، يُرغم quot;المسؤولينquot; وquot;صناع القرارquot; و quot;اصحاب النفوذquot; على الاذعان والرضوخ لمطالب الناس العادلة، والرّفض الحاسم لأية مشاركة تؤدي ممارستها الى الحفاظ على موقع الخصم المتمسك بجوره، ويرغم اي quot;زعيم quot; على الرحيل عندما يعدم امكانية ايجاد من يتعاون معه وييسر له مهامه.

اولى الخطوات تكون عبر تمييز العدالة عن القانون،إذ ليس القانون هو الذي يُملي ما هو عادل، بل إنّ العدالة هي التي تفرض القانون، فحين يكون هناك تعارض بينهما، علينا أن نختار العدالة وأن نعصي القوانين، لأن ما يجب أن يُلهِم الإنسانَ في سلوكه ليس ما هو quot;شرعيquot; بل ما هو quot;مشروعquot;.
هذه العملية سلمية لاعنفية بالكامل وتستوجب شجاعة منقطعة النظير لأن الخنوع للاستبداد سواء كان بسبب الخوف او الاقتناع بالهزيمة عبر الصمت السلبي يشكل سندا مثاليا للنظام القامع المستبد الذي يضطهد شعبه.

المرحلة الاولى من اللاتعاون اذن تكون عبراحباط التعاون وافشال التوجيهات اللاعادلة؛ اما المرحلة الثانية فتكون عبر انجاح المشاريع البديلة الداعمة للحريات بما يحقق البناء واجتراح الحلول لتطوير القوانين بما يتوافق مع العدالة واحقاق الحقوق الانسانية. انها آلية مزدوجة تسمح بتطوير موازين القوى لصالح الحريات مما يؤدي الى تحدي السلطة الجائرة تحديًا أكثر فأكثر علنية. ويتطور اللاتعاون ليصبح مباشرًا الى ان يصل الى درجة العصيان المدني ويساهم في إسقاط النظام المستبد الجائر.

والتساؤلات حول الربيع العربي كثيرة : فهل الثورات اُنجزت وتحققت ؟ وهل يمكن اعتبار مجرد اسقاط quot;الزعيمquot; تغييرا كافيا؟
العدالة لا تحقق بمجرد غياب quot;شخص مستبدquot; بل بغياب quot;عقلية الاستبداد quot; التي لازالت ndash; الى الآن - مفاعيلها وتطبيقاتها قائمة وحاضرة في كافة المرافق الحياتية والمؤسساتية، وان كان لابد من تنظيمات مدنية وقانونية ترتب علاقات البشر ببعضهم البعض، فإنه ينبغي اعادة النظر في كافة القوانين والانظمة المؤسسة والمنتجة والعمل على تطويرها بشكل يؤسس للحريات الفعلية ويسمح بترسيخ عقلية تداولية قابلة للممارسة الديموقراطية وهي سيرورة ثورية متجددة تطال كافة المرافق بما فيها التربوية والدينية والادارية.

فالحرية تنطلق من وعي الكائن لنفسه اولا عبر تحرره عن كل حكم مسبق وكل استبداد يمارسه دون ان يدري. فعندما نريد العدل والحرية والسلام سيكون للعدل ارادة فينا!