ليس صحيحا ان روسيا لا تعرف ما الذي ستؤدي اليها سياستها السورية. ان موسكو تدرك تماما ما الذي سينتج عن هذه السياسة التي تصبّ في عملية مدروسة تستهدف تدمير سوريا لا اكثر. انها سياسة مدروسة كانت متبعة، ولا تزال، منذ ايام الاتحاد السوفياتي، السعيد الذكر. صبت هذه السياسة في مرحلة معيّنة في اخذ العرب الى هزيمة 1967 التي لا تزال المنطقة كلّها تعاني منها الى اليوم. لم يعد السؤال لماذا تتبع موسكو السياسة التي تتبعها تجاه سوريا. السؤال ما الذي تبتغيه، في المدى البعيد، من وراء انتهاج مثل هذه السياسة وكيف يمكن ان تستفيد من تفتيت سوريا؟
ما نشهده حاليا هو فصل آخر من فصول اخضاع العرب واذلالهم. ما يجمع بين كلّ هذه الفصول هو السياسة الروسية التي شجعت العرب، على رأسهم جمال عبد الناصر، على السير مباشرة في اتجاه الهزيمة من دون تردد من اي نوع كان. الم يكن الاتحاد السوفياتي يمتلك وقتذاك ما يكفي من المعلومات للحؤول دون ذهاب مصر وسوريا الى الحرب؟ وقد اخذ ناصر الاردن، حيث لم يكن الملك حسين، رحمه الله، مقتنعا بالحرب، الى تلك المغامرة المجنونة. الى اليوم يتحمّل جمال عبد الناصر المسؤولية المباشرة عن اضاعة الضفة الغربية والقدس الشرقية ووضعهما تحت الاحتلال الاسرائيلي.
لم يتغيّر شيء في موسكو. لا يزال الاتحاد السوفياتي حيّا يرزق عبر سياسته الشرق الاوسطية التي تعتبر سوريا حجر الزاوية فيها والتي تنقل العرب من كارثة الى اخرى. في كل الميادين والمناطق الاخرى من العالم، صار الاتحاد السوفياتي من الماضي...
هذا لا يمنع الاعتراف صراحة انّ من خدع جمال عبدالناصر واخذه الى لعبة المزايدات عشية حرب 1967 كان النظام البعثي في سوريا. كان حافظ الاسد وقتذاك وزيرا للدفاع وكان على راس هرم السلطة مجموعة من المراهقين البعثيين كانوا يسمّون انفسهم الجناح اليساري في الحزب. كان الاسد الاب الوحيد بين قادة الحزب الذي يعرف الى اين سيأخذ الجناح اليساري في البعث السوري البلد. كان همّه الاستيلاء على السلطة في الوقت المناسب وليس هزيمة اسرائيل او تفادي الحرب معها...او الاحتفاظ بالجولان!
جديد هذه الايّام ان سوريا ليست الطرف الوحيد الذي يشجّع على ارتكاب مزيد من الجرائم في حق الشعب السوري. هناك ايران التي تبدو سعيدة بما يجري على الارض وكأن التمتع بالمجازر التي يتعرض لها السوريون يشفي غليلها من منطلق مذهبي محض. لم تتورع ايران عن الضغط على حكومة نوري المالكي في العراق كي تأخذ موقفا معاديا من الشعب السوري. يبدو هذا التصرّف اكثر من طبيعي اذا اخذنا في الاعتبار النفوذ الايراني في العراق من جهة والرغبة في عدم خسارة سوريا كمستعمرة ايرانية من جهة اخرى.
كان في استطاعة روسيا التكفير عن ذنوبها... وحتى عن ذنوب الاتحاد السوفياتي في حقّ العرب. ولكن يبدو ان موسكو مصممة على الذهاب الى النهاية في سياسة تستهدف شرذمة المنطقة، بما يرضي اسرائيل، متغاضية عن الدور الذي يلعبه النظام الايراني في اثارة الغرائز المذهبية من المحيط الى الخليج.
انه بالفعل موقف غريب تتخذه روسيا التي اعتبرت نفسها في الماضي مع الشعوب العربية وحقها في استعادة حريتها وكرامتها على غرار ما حصل في اوروبا الشرقية. ما هذه العقدة السورية والعربية التي لا تستطيع موسكو التخلص منها؟ هل صارت موسكو الآن حريصة على المسيحيين في المنطقة؟ لماذا لم تقل كلمة بعد الذي حلّ بمسيحيي العراق؟ لماذا لم تنبس ببنت شفة عندما تعرّض المسيحيون في لبنان ابتداء من العام 1975 وحتى العام 1990 لسلسلة من المذابح نفّذها في حقهم النظام السوري، باسلحة روسية، بشكل مباشر او عن طريق منظمات فلسطينية موالية له؟ اين روسيا ممّا يحل بمسيحيي فلسطين على يد الاحتلال الاسرائيلي في القدس الشرقية والضفة الغربية عموما... والتطرف الاسلامي، خصوصا في غزة؟
اذا كان هناك ما يمكن استخلاصه من السياسة الروسية المتبعة تجاه سوريا والشعب السوري، فانّ هذه الخلاصة تجسّدها كلمة واحدة هي:الانتهازية. انها الانتهازية ولا شيء آخر غير ذلك. لكنها انتهازية تتميّز بقصر النظر والغباء في الوقت ذاته. فالشعب السوري لا يمكن الاّ ان يخرج منتصرا على نظام اراد استعباده واذلاله. هذا الشعب السوري لا يمكن ان ينسى ان روسيا وقفت مع الجلاد وووفرت له الاسلحة اللازمة لاخذ لبلد الى حرب اهلية تغذيها ايران. نعم الشعب السوري لن ينسى ما تفعله روسيا هذه الايام. لن ينسى الفيتو الروسي ولن ينسى ان روسيا دفعت في اتجاه تغطية كل الجرائم التي يتعرّض لها السوريون هذه الايّام... من اجل حفنة من الدولارات يجنيها تجّار الاسلحة الروس او من اجل استرضاء النظام في ايران.
بغض النظر عن المصير الذي سنتهي اليه سوريا، ستخرج روسيا الخاسر الاكبر. لن تخسر سوريا فقط. ستخسر عربيا واسلاميا ومسيحيا. ستخسر لسبب في غاية البساطة عائد الى ان للشعوب ذاكرة. لم ينس البولنديون او الهنغار او التشيك او او البلغار ما فعله الروس في بلدانهم في العهد السوفياتي. لن ينسى السوريون والعرب ما فعله الروس بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.