ذهبت مع قريب لي في بغداد لصرف راتبه التقاعدي. وقفنا في حر لاهب لا يمكن لإنسان أن يصمد حتى بضع دقائق. كان الرجل يحمل بيده قنينة ماء ومنشفة صغيرة يرطبها بين الحين والحين ويمسح بها وجهه ثم يضعها على رأسه. قلت له بعد أنتظار طويل لا يمكننا البقاء طويلا وإلا هلكنا يا عمي! فأجاب يصعب علي أن أعود ثانية. لو تركت مكاني الآن فسوف لن أتمكن من العودة ثانية.. قاومنا أكثر من ساعتين تارة يقف ضمن المراجعين وأذهب أنا نحو الظل ثم أعود كي أقف في مكانه ويذهب هو تحت الظل. أنتهى وقت المراجعة ولم يتمكن من سحب راتبه التقاعدي! سألته ماذا ستفعل هل ستأتي غداً قال لي لا أدري.. quot;الله أرحم الراحمينquot;!

هذا التعبير سمعته أينما ذهبت في أنحاء العراق. سمعته حين متفجرة تنفجر ويموت عشرات الأبرياء ويجرح العشرات فتظهر أمرأة على شاشة التلفاز تقول quot;الله أرحم الراحمين!quot;

بالأمس سمعت عن متفجرتين في شرق بغداد قيل أنها قرب مقر يعتقل فيه رؤوس الإرهاب، وراح ضحية الإنفجارين الناس الذين كانوا في الشارع تلك اللحظة. ويقولون بأن الإرهابين قتلوا من في المقر وحرروا قادتهم وتمكنوا من الفرار. أتصلت بصديق لي يسكن في المنطقة وقال لي كان إبن عمي ماراً في الشارع وقتل في الحادث وأنا ذاهب اليوم إلى مدينة النجف لدفنه هناك. وأنهى حديثه معي بالقول quot;الله أرحم الراحمين!quot;

حاولت متابعة القنوات الفضائية الدينية ونحن في شهر رمضان الذي تكثر فيه quot;مهنةquot; المنابر الحسينية فسمعت قراء الروضة الحسينية وهم يرددون كثيراً بعد كل فاجعة يتلونها quot;الله أرحم الراحمين!quot; فعلمت بأن عملية التخدير هي عملية واعية مقصودة وليست إعتباطية. أن تقبل بهذا الواقع وتقبل بالذل وتقبل بسلب حقوقك وتقبل بتلوث سمائك ومائك وتقبل بالمرض وغياب العلاج وتقبل بتزوير التحصيل العلمي والحصول على شهادات أكاديمية مزورة يحملها ممثلوك في البرلمان وقادتك في السلطة وأنت تنتظر العقاب من الرحمن وتطل الرحمة منه وتسكت وأنت تردد quot;الله أرحم الراحمين!quot;

سمعت قارئ روضة واحد فقط وهو متوفى وبث له شريط قديم في أحدى القنوات الدينية وهو ينهي دعاءه بالقول quot;ربنا لا تسلط علينا من لا يرحمناquot; وهي دعوى أبلغ من القول quot;الله أرحم الراحمينquot; في قبول الذل والهوان والإستكانة لحكمة الغيب وعقاب القدر.

ربنا لا تسلط علينا من لا يرحمنا.. والتسلط من السلطة، والسلطة إن حكمت جارت. وعندما تتمكن من سيطرتها على وسائل القمع والدفاع والأمن وتتمكن من الهيمنة على موارد البلاد وتقوم بتنظيم اطرها المؤسساتية تصبح سلطة قد تقمع بشكل فج في فترة ما وقد تتسم بالحكمة والذكاء واللعب والمناورة ويطول حكمها وقد تكون غبية فتسقط بالأخطاء وتشكل الأخطاء سبباً لزوالها بثورة أو بتأثير خارجي عندما يعجز غضب الداخل عن عملية التغيير.

نظام الدكتاتور كان نموذجاً لهذه السلطة. ولقد تعرض العراقيون عموماً، الجانب الشريف منهم إلى عسف الحاكم ورعونته بعد أن تمكن من التسلط.

تذكرت وأنا أسمع تعبير quot;الله أرحم الراحمينquot; أبان تسلط الدكتاتور أن رئيس أحدى عشائر الجنوب وأظنها عشيرة خزاعة قد أستدعي من قبل الدكتاتور لمساومته وتهديده لأن ينشر عدالة الحاكم بين صفوف عشيرته، وحتى يذل رئيس العشيرة هذا فإنه وقبل لقاء الدكتاتور تعرض للتفتيش، وما يمثله التفتيش من تجريده من كامل ملابسه وإلى آخر ما تنطوي عليه عملية التفتيش وما يتبعها من تصرف مهين ومخجل! ثم تم اللقاء مع الدكتاتور وأهداه مسدساً. عاد الرجل إلى عشيرته وجمع أبناءه وزوجته وحكى لهم ما تعرض له من المساس بكرامته وشرف العائلة والعشيرة وأعتذر عن مواصلة الحياة. وقال لهم أرجو أن تحفظوا السر. أخرج المسدس أمامهم وأطلق على نفسه النار. وعندما صار أبناء العشيرة يسألون الأبناء عن سبب الإنتحار والموت كانوا يقولون quot;الله أرحم الراحمين!quot;

رحل الدكتاتور غير مأسوف عليه بعد أن سلب من عمر العراق أكثر من أربعين عاماً.
اليوم حلت محل الدكتاتور دكتاتوريات صغيرة متفرقة لا يجمعها جامع سوى سلب المال. لا تشكل بمجموعها سلطة، فهي سلطات صغيرة متناثرة وصغيرة جداً تفتقر حتى إلى مواجهة مع عسكر الأقليم الشمالي! سلطة ضعيفة تلفزيونية. كل ما يوحي بوجودها مشهد تلفزيوني لبضع دقائق يتحدث فيه أحد رجالاتها أو أحدى نسائها وخلفه أو خلفها علم العراق وعليه بالخط الكوفي quot;الله أكبرquot; ظناً منهم أنهم يحكمون العراق وما يوحي لهم بهذا الإعتقاد ما تتناقله وسائل الإعلام من تصريحات لهم فيشاهدون أنفسهم على تلك الشاشات ويساورهم الأعتقال بالأهمية والسلطة والتسلط.

إن أي متابع لطبيعة هذه التصريحات التي تشكل بمجموعها يوميات الدولة يستنتج سخف وتناقض وكوميديا ومهزلة السلطة والتسلط. لا أعرف كيف ينامون ليلاً.. وكيف ينهضون عند الصباح وما هي طبيعة إفطارهم. وهل يجيدون تنظيف أسنانهم كما هو سائد ومألوف، وبماذا يبدأون عملهم وكيف يسلمون على بعضهم وكيف يتهاتفون ومن يرد على المكالمات الهاتفية. إن في كل بلدان العالم وكل حكومات تلك البلدان توجد صيغة للحكم ويوجد تصور للحاكم وحكومته حتى في الصومال وجيبوتي وإثيوبيا بل حتى في جنوب السودان المتأسس تواً.. أيضا توجد حكومة وتسلسل مناصب وطرائق عمل وشيء من بناء العلاقة الإدارية والوظيفية! البلد الوحيد الذي لا توجد فيه صيغة دولة ولا منطق دولة هو العراق. فلا الجيش فيه جيشاً مثل بني البشر ولا مؤسسات الأمن مؤسسات للأمن مثل بني البشر. الجيش وزير دفاعه عين وزيراً للثقافة لأن الجيش ليس بحاجة إليه ووزير الداخلية يعلن كل يوم عن ألقاء القبض على أرهابيين وهميين، لو جمعنا كل الذين أعلن إلقاء القبض عليهم منذ عام 2003 وحتى الآن لفرغ العالم من كل الإرهابيين، ونحن حتى الآن لم نر أحداً منهم ولا سمعنا عن محاكمات لأحدهم ولا لمسنا عقاباً على أحد ممن تسببوا في موت عشرات الآلاف من العراقيين!

في المحصلة لا توجد دولة عراقية بالمعنى المألوف والمتداول للدولة. وبالضرورة لا توجد حكومة. فتسمية رئيس وزراء لا يعني وجود حكومة على أرض الواقع. وتسمية رئيس جمهورية لا يعني وجود دولة على أرض الواقع. عندنا رئيس جمهورية مريض وبدين جداً له مخصصات بالملايين يعبث بها مستشاره الأول وعندنا رئيس وزراء يعقد إلإجتماعات مع وزرائه ويصرح كل يوم ما لا يقبض تصريحاته أحد ولا يعمل بها أحد. الأرهابيون يمرحون ويسرحون ويسرحون ويمرحون متنقلين بكل حرية ولا من يكتشف تحركاتهم وإرهابهم.. لا أحد يدري في أي من الكراجات يتم تفخيخ الشاحنات والسيارات والدراجات البخارية.. لا أحد يدري من يدفع المال لهؤلاء ومن يؤمن لهم مصروف العيش والرواتب.. السجناء القابعون في السجون والمعتقلات لا أحد يعرف عن جرمهم شيئاً حقيقة أم تهمة ملفقة.. الوزراء ينهبون وينهبون بدون وجع قلب ولا وازع من ضمير. والبلد خربان تماماً وفارغ من مفهوم السلطة ومفهوم الدولة الديمقراطية منها أو القمعية، فهي دولة ليست ديمقراطية ولا هي بالدكتاتورية لأنها لا تمتلك صفات الدولة أصلاً ولا سمات الحكومة.

فهل يا ترى يتمتع شعب في التاريخ بمثل هكذا فرصة ذهبية للتغيير والتغيير الجذري والنهائي لبدء بناء الدولة العراقية الحديثة وإسعاد الناس ومحاسبة اللصوص وإستعادة ما نهبوه ليعود لأصحاب الحق من أطفال العراق ومدارس العراق وتعليم العراق ووضع العراق في المكانة التي يستحق.

إن السكوت الغريب وعدم التحرك بإتجاه البحث عن الطريقة المثلى للحل لطرد مجموعة من الـ quot;....quot; من القصور التي يقبعون بها وتمكين فئة من أبناء العراق الغيارى كي يعيدوا بلادهم إلى جادة الصواب والبدء بتنظيف مياه العراق من النفايات التي تودي بحياة أبنائه مبكرين دون أن ينجزوا الحلم الذي ولدوا من أجله. عدم تشكيل مثل هذا التيار الوطني إنما يعبر عن خيبة تاريخية في وجدان التاريخ العراقي. ويعبر عن لا أبالية غريبة في مساره ولدى أبناء شعبه.. أني أتساءل وأصفن كثيراً وأتعذب لحد الجنون والصراخ اليس بين أبنائكم اليوم أيها العراقيون quot; حسن سريعquot; آخر يتمكن من جمع كل شخوص الزيف ويعتقلهم لوحده مثل ما فعل quot;حسن سريعquot; في معسكر التاجي ومعسكر الرشيد في الثالث من تموز عام 1963 ولولا أن خانه الشيوعيون وساهموا في فشله وموته لسجل أجمل ثورة في التاريخ الإنساني.. عريف من مدينة الثورة دوخ أنقلابيي شباط الأسود وجعلهم يرتعدون على مدى نهار كامل وأعلنوا منع التجول فيما هو وبعض رفاقه يسيطرون على مداخل المعسكرات. وكانت الدولة في أوج أرهابها وقمعها.

اليوم أمامكم حكومة تلفزيونية وسلطة من كرتون حقيقي. ليس فيها سوى لصوص وبعض دعاة المنابر الذين يعلمونكم أن تلقوا بكل تبعات الحياة ومراراتها على الله بقولهم quot;الله أرحم الراحمينquot; فلو سكرتم بهذا المخدر وزرعتم بذوره في أرض بلادكم فلن تحصلوا على تفاحات الجنة ولا تجني نخيلكم ثمراً.. إذا لم تلتقوا اليوم قبل الغد وقبل أن تختلط الأوراق أكثر ويصعب فرزها تالياً، فإنكم ذاهبون نحو التدهور والخراب! أنتم أمام فرصة تاريخية ونموذجية لأن تنقذوا بلادكم من هؤلاء الذين يتسلطون عليكم وينهبون أموالكم ويسرقون مستقبل أبنائكم.. وهم قلة ولا شئ!

نعم quot;الله أرحم الراحمينquot; وهو الرحيم لمن يرحم نفسه بالعمل والفعل وليس بالإستكانة لحرارة الشمس القاتلة منتظراً بضعة وريقات لتقاعده بعد أن يبلغ الستين.. هذا إذا بلغ الستين وسط كل الأمراض والأوبئة التي تنتشر في سماء العراق وأرضه.

نعم quot;الله أرحم الراحمينquot; وهو الرحيم لمن عرف معنى الذل ورفضه ولمن عرف معنى سرقة الوطن وحاكم لصوصه في وضح النهار وتحت الشمس في تغيير يذكرنا بالثورة الفرنسية ومحاكمة العتاة في الساحات وليس في أقفاص الإتهام في المحاكم.. عندها يكون الله أرحم الراحمين!

هذه ليست حكومة ولا هي دولة.. عليكم أن تدركوا ذلك جيداً.. ليس للحاكم من يحميه، وليس للرئيس من يحترمه رئيسا للدولة كان أم رئيسا للوزراء أو رئيسا لأقليم.. كلهم سواسية.. رموزاً هشة في دولة كرتونية لا نحتاج للتخلص منها سوى بضعة شرفاء. نعم بضعة شرفاء يرسمون المخطط الجميل الذي يدفع بهؤلاء خارج المنطقة الخضراء أو كشفهم بتهشيم تلك الأسيجة الإسمنتية التي تسيج المنطقة الخضراء ولا شيء غير تلك الأسيجة، والجيش الذي يرأسه وزير الثقافة ليس بجيش نظامي يمكنه من الدفاع عن السلطة.. ربما يسهم بعض أبناء الجيش وأبناء الشرطة معكم ويزغردوا بالبنادق مع صرختكم. فلن يحمي سكان المنطقة الخضراء لا جيش ولا أمن ولا أجهزة المخابرات الأمريكية. أطيحوا بالأسيجة الإسمنتية الواهية، وستشاهدون المهزلة، وستنظرون إليهم وتضحكون عن هذه السنوات السبع كيف مرت وكيف لم تنتبهوا إلى شكل المهزلة، أطيحوا بالأسيجة فهي مجرد إسمنت، وتتحول الحالة إلى كوميديا ألهية يسهم فيها الملائكة بالضحك وهم ينظرون إلى هؤلاء مجردين من ملابسهم لا يجدون مكاناً يذهبون إليه.. فهل من شعب يمسك بالمعاول ويهدم جدار الخوف الوهمي.. جدار المنطقة الخضراء.
يومها يكون الله أرحم الراحمين!

كاتب وإعلامي عراقي مقيم في بريطانيا
[email protected]