ثمة تحليلات تتناول الثورات العربية، تستند إلى نقطة أساسية، خاطئة، ترى أن النظم التي تواجه الثورات هي نظمٌ معادية للغرب، وأن هذا هو سبب دعم الغرب للثورة عليها، وهنا أمران، الأول: أن بعض النظم التي أطاحت بها الثوراتُ معروفةٌ بصداقتها للغرب وأمريكا، وهما نظام مبارك، وزين العابدين.
وأما الأمر الثاني فهو أن النظم التي أظهرت بعض laquo;الثوريةraquo; كنظام الأسد، والقذافي، وعلي عبد صالح إنما كانت تلعب في هامش معين، وحين يجدُّ الجِد كانت تهرع إلى بيت الطاعة التي لم تفارقه، حقيقة.

هكذا فعل القذافي حين كشف، وتخلى عن برنامج الأسلحة النووية في عام 2003م، وكذا صالح الذي ظل يساوم، ويتعاون مع واشنطن، في laquo;الحرب على الإرهابraquo; والقاعدة، فسمح بانتهاك سيادة اليمن، على أمل أن يغطي الدعم الأمريكي على تقصيره، بل تهميشه لشعبه.

وأما نظام الأسد الأب والابن، فما كان يوما ثوريا بحق، ولا ساعيا للخروج من النظام الدولي الذي تفرضه، بدرجة كبيرة، أمريكا، وقد ظل في المفاصل المهمة جزءا متناغما مع الوضع الإقليمي الذي ترعاه واشنطن، سواء في العلاقة مع إسرائيل، والتزامه الذاتي باتفاقية فك الاشتباك معها 1974م التزاما صارما وتاما.

أو في رعايته، ومشاركته في الاتفاقات والتفاهمات التي ترعاها أمريكا والغرب، بين لبنان وإسرائيل، وحتى laquo;حزب اللهraquo; المتحالف مع نظام الأسد يفهم قواعد اللعبة، ولا يتطاول عليها، حتى بعد أن دُمِّر لبنان في حرب تموز 2006م، واعترف أمينُه العام الذي أُلزم منذئذ بالاختباء، بندمه على ما تسبب به، حتى حزب الله يلتزم بقرار 1701 الذي يفرض ترتيبات تمنع وجود مسلحين، أو معدات قتالية بين الخط الأزرق ونهر الليطاني، باستثناء الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل.

ولا نحتاج إلى استذكار المواقف المهمة التي اتخذها نظام الأسد، منذ الأب إلى الولد، في حرب أمريكا على العراق، وانضمامه إلى التحالف الذي قادته أمريكا، فيما سمي بعاصفة الصحراء، 1991م، وكذلك الدور الإيجابي المعترف به، أمريكيا، علنا، في ضبط الحدود مع العراق، بعد الغزو الأمريكي له؛ لمنع العناصر المتطرفة، أو الخطرة على الاحتلال الأمريكي في العراق.

فشل داخلي يوجب التدخل الخارجي:
والقول إن هذه النظم التي تواجه ثورات وتحديات داخلية خطيرة، ولا سيما نظام الأسد، إنما تواجه ذلك لأسباب تعود إلى وطنية هذا النظام وثوريته أمرٌ يحتاج إلى بعض الكَبْح، ومجافاة الغُلوّ الانتقائي.

والأقرب إلى الواقع أنَّ تلك الدول الغربية، وعلى رأسها أمريكا، تبذل كل الجهد؛ للحفاظ على مصالحها، في هذه الرياح الشديدة التي تجتاح المنطقة الغنية بموارد الطاقة، والتي تتوسطها إسرائيل، وتتنامى فيها مفاهيمُ وتوجهاتٌ مخالفة للثقافة الغربية.

ولكن كيف تفعل أمريكا والغرب، مع هذه الشعوب المستيقظة للتوّ من سُباتها، وكيف تدير هذه الأزمة بأقل الخسائر؟ وكيف توظف العناصر المتناقضة في مجتمعات المنطقة غير المتجانسة، وكيف تحتفظ بالدولة ومؤسساتها؛ لكي تكون الوسيط الأوضح، والضمانة الأقوى في ضبط تلك المشاعر والانفعالات الشعبية المتذبذبة؟ فهذه أسئلة جديرة بالانتباه إليها ومتابعة أداء القوى الخارجية فيها.

ومن الضروري وضع كل حدث في سياقه التاريخي، والثورات العربية بمركباتها المعقدة أحوجُ ما تكون إلى ذلك.

وثمة سؤال يتكرر: هل هي بفعلٍ خارجي، أم داخلي؟
أولا نحن نعيش في القرن الحادي والعشرين، مع ما فيه من تطور معرفي، وثورة في الإعلام والاتصال.

وثانيا: المجتمعات العربية، بعد (الدولة الوطنية) و(ما بعد الاستعمار) تئن تحت أحمال ثقيلة من الظلم والإفقار والتجهيل والتهميش...

في هذه اللحظة التي اصطدمت فيها مجتمعاتنا، وهي على تلك الحالة المجحفة، اجتماعيا واقتصاديا ومعنويا ونفسيا، بهذه الوسائل التعبيرية التي لم تكن السبب في الوعي بالذات وبالمجتمع، بقدر ما كانت وسيلة لبلورة هذا الوعي إلى إرادة جمعية تجمعها آلامٌ واحدة، وآمال..

فعلى الصعيد الداخلي، وعلاقة الشعوب بالنظام المستبدة التسلطية المحتكرة لمقدرات البلاد كانت الأمور واضحة: لا مستقبل لهذه النظم، وهي ميتة، فجاءت الثورات والحراكات؛ لتنعيها، وتدفنها.

ولذلك لم يكن من الحكمة، ولا من بُعْد النظر، أنْ يطمئن الغربُ إليها، فلم تعد قادرة، بوضعها المتيبس، على أن تضمن مصالحَه، على المدى البعيد، وحتى القريب.

وما دام أن التغيير الداخلي، صار لكثير من الأقطار العربية، استحقاقا؛ فإن أمريكا والغرب لا يلائمه أن يدير ظهره لها، أو أن يتموضع في المكان الخاطىء تاريخيا، كما اختارت روسيا، والصين، وليس لهما من المصالح والنفوذ مثل الذي لأمريكا والغرب في المنطقة.

أزمة أمريكا وأزمة المجتمعات الثائرة
وإذا كانت أمريكا في أزمة محدودة؛ بسبب نشوء قوى سياسية جديدة لم تجربها من قبل؛ فإنها تتعامل معها بحذر بالغ، ولا تقدم لها الدعم السياسي والمادي إلا بقدر ما تتقدم تلك القوى في تعهداتها السياسية الخارجية، بما في ذلك علاقات طبيعية مع الغرب، كما في السابق، وبما في ذلك التعهد بعلاقات شبيهة بتلك التي كانت للنظم البائدة بإسرائيل، وفي الأمور الداخلية بعض المعايير مثل حقوق الأقليات، ووضع المرأة، وحرية الصحافة والإعلام.

فإذا كانت أمريكا في تلك الأزمة المحدودة، فإن المجتمعات العربية في ألف أزمة كامنة، ومُبيَّتة؛ فتستطيع واشنطن إيقاظَها، وقتما تشاء، واللعب على التناقضات التي تُضعِف كيانَ الدولة المركزية.

وهذا ملحوظ في العراق، ما بين الأكراد والشيعة، أو ما بين إقليم كردستان شبه المستقل، وحكومة المالكي في بغداد، مع أن الأمر في الواقع غير ذلك، فالأكراد ليسوا كتلةً مُوحَّدة، وراء مواقف البرزاني، والشيعة ليسوا في وضع معيشي مثالي؛ حتى لا يبقى لهم إلا الاصطفاف وراء المالكي المدعوم إيرانيا، ولكن ما يطفو على السطح هو هذا الصراع السياسي الذي لا تبدو لها نهاية قريبة.

والنتيجة ضعف التأثير العراقي في المنطقة والإقليم، بل الدوران في فلك إيران وتركيا.

وأما مصر كبرى الدول العربية فإن وصول laquo;الإخوانraquo; المحدود إلى السلطة يزيد في ضعفهم، وفي ابتزازهم، من خلال مجموعة متجددة من المعضلات الداخلية، والتحديات الخارجية، حتى قيل إن المشكلات الجديدة في الداخل المصري ستُنسي الرئيسَ، مرسي، تعهداته بحل المشكلات التي ذكرها في برنامجه، ومنها النظافة، ورغيف الخبز، وخلافه.

والنتيجة حكومة مُلفَّقة، لا لون لها، يتقاسمها مقربون من النظام السابق، والمؤسسة العسكرية، من جهة، حيث احتفظوا بوزارات مهمة، وهي الدفاع، والخارجية، والداخلية، والمالية والثقافة، وlaquo;الإخوانraquo; من جهة أخرى، حيث اكتفوا ببعض الوزارات الداخلية، ومنها التعليم والشباب، والإعلام.

والحاصل أن نقطة الضعف الأعمق عندنا هي بنيتُنا الداخلية، وأنَّ هذه المجتمعات لمَّا تتكون بعد، ولكن أبناءها، اليوم، يحاولون تَلَمُّس بَدَهيِّات الحياة المدنية، من عدالة وحرية داخلية، وبعض الحقوق كالتعليم والتطبيب، وما إلى ذلك..

هذه المطالب التي تبدو بَدَهيِّة حَرَمتْ النظمُ السابقة، والآيلةُ إلى السقوط شعوبَها منها، حتى الدول الغنية بالنفط، كليبيا لم يكن فيها استشفاء، ولا تعليم، فضلا عن العدالة والحرية.

ومع أن قسما من الشعوب وlaquo;النخبraquo; تستدعي تدخلاتٍ دوليةً في أوطانها؛ إلا أنها تفعل ذلك، مضطرة، حين رأت أنها بين نارين: إما ظلمٌ داخلي مُقنَّع بوطنيةٍ كاذبة وصلتْ إلى حد القتل والإبادة، عندما طالب الناس بالتغيير والإصلاح، وإما دول حديثة لا تقطع مع الغرب، ولا مع أمريكا التي لا تُكِنُّ لها تلك القوى المستعينة بها، لو دققنا، عميقَ ثقةٍ، أو احترام.

فالشعوب العربية اليوم ليست على سذاجتها التي كانت قبل عقود، حين سقطت الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، والثقة بالغرب، بعد كل الازدواجية التي عاينتها فيها، ليست مثالية.

وأمريكا، من جانبها، ليست بصدد إعادة صياغة المنطقة، وإن كانت تفيد من تناقضاتها، وتستمر في إدارة أزماتها، وهي تحاول أن تجعل التغيير محدودا لا يحطم بناء الدولة، ولا مؤسساتها، وأهمها العسكرية، والأمنية، وهذا ما جرى في مصر، تونس، واليمن، وأما ليبيا فتعمل على بناء مؤسسات للدولة، ويشرف على هذا التأسيس، كما يبدو من نتائج الانتخابات الأخيرة شخصيات (عصرية).

وهذا ما تحاوله في سورية، حيث صرح وزير الدفاع الأمريكي، مؤخرا بضرورة الحفاظ على مؤسسة الجيش، وأن لا يتكرر خطأ العراق.

والخلاصة أن هذه الشعوب تحاول أن تتنفس قليلا، بعد أن خنقها حكامٌ بالغوا في الاتجار بالقضايا القومية والوطنية، إلى حد نسيان الشعوب، أو تحقيرها، وكانت أعينُهم، طوالَ الوقت، ولا سيما في الأوقات الحرجة، على ما تريده الدولُ الفاعلة، وهذا ما يفسر الاضطراب الكاريكاتوري في خطابات النَّفس الأخير لتلك القيادات والعظماء ومقربيهم، بين استجداء الغرب بالمصالح، وبأمن إسرائيل، و(استقرار المنطقة) تارة، وبين التحذير من القوى المتطرفة والإرهاب تارة أخرى.

أما الشعوب فأمرها يهون في نظر ذاك الحاكم، إذا خلَّى الغربُ بينه وبينها: حربٌ شعواء، إلى أبعد مدى.
[email protected].