يشترك العالم ويتفق ضمنا على غطاء الرأس، الرجال قبل النساء، ومن ثم النساء في حالات كثيرة. فالأوربيون صنعوا القبعة وأخذت أشكالا متباينة، فقبعة تشرشل هي غير قبعة ترومان، وقبعات اللوردات تختلف عن قبعات العامة. والقبعة وغطاء الرأس يخفي الصلع عند البعض في جانب وبضفي جمالا على إكتمال الشخصية في جانب آخر. وخلع القبعة في التحية دليل الإحترام واللياقة في العلاقة أن ترفع قبعتك إحتراماً. والقبعة في تشكيلها لها حافة ما يساعد ذلك على خلعها والإنحناء إحتراماً. قبعات اليهود البشعة هي غير قبعات الطبقات الإرستقراطية الجميلة من المسيحيين في الغرب. الأتراك إبتدعوا الطربوش وتأثرت به البلدان التي إستعمرها العثمانيون. الملكات في العالم لهن قبعات يصممها لهن بخصوصية عالية أهم مصممي القبعات. وكليوباترا لها غطاء رأس يضفي عليها مسحة أضافية من الجمال.

الملك فيصل الأول إختار السدارة غطاءً للرأس الملوكي وهي شكل جميل ومتطور من السدارة الباكستانية والهندية، ولكن أصبحت لها هوية جمالية عراقية خاصة. حتى صارت السدارة تسمى quot;الفيصليةquot; نسبة إلى الملك فيصل الأول وصار يلبسها الملك غازي والوصي عبد الإله والملك فيصل الثاني وكذلك لبسها كبار الساسة العراقيين دليل على المواطنة والإنتماء الشكلي للوطن ولكن كانت السدارة الفيصلية على رؤوس السياسيين سمة جميلة لأنها حقيقية وإنعكاس لنظافة داخل تلك الشخصيات الوطنية والمحببة في تاريخ العراق.

لم تكن العمامة قائمة في الاسلام حتى عند محمد بن عبد الله قبل أن يصبح رسولا وبعد أن أصبح رسولا. كان يغطي رأسه بقماشة سوداء لها ذؤابتين نازلتين على كتفيه، ونفس الشيء عند إبن عمه الإمام علي وكذا لبسها الصحابة، وكذلك كان غطاء الرأس عند الإمام الحسين. وإن كل المسلسلات التلفزيونية التاريخية هي مسلسلات ساقطة الأزياء حيث لا علاقة لها على الأطلاق بطبيعة الملابس التاريخية ولا علاقة لها أيضا بأغطية الرأس. فلم تكن ثمة عمائم. لكن فكرة العمامة برزت كقيمة سياسية بعد عشرات السنين من الرسالة الإسلامية فزاد الحكام كمية القماش دلالة الأبهة، وصارت تلف حتى إتخذت شكل العمامة وصارت تمثل السلطة السياسية والسلطة الدينية على حد سواء وهي ذات فكرة ولاية الفقيه الحالية التي إعتمدها النظام الإيراني. وصار الحكام ورجال الدين يتبارون في حجم العمامة فظهرت عمائم عريضة جداً تعبير عن القوة والسلطة ولذلك قال الحجاج بن يوسف الثقفي:

أنا بن جلا وطلاع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفوني

وكان يعني التهديد والوعيد ويعني السلطة التي تمثلها العمامة، أي أنه مع العمامة سوف ينكل بالناس وهو ما فعله.

في الحقب السياسية المعاصرة إختفت العمائم الشيعية لأن النظام الدكتاتوري في العراق كان نظاما سنيا، فخافت العمائم الشيعية وبقيت محدودة فأما مؤيدة للنظام وفق مبدأ التقية أو مهاجرة إلى طهران وقم.

كان ظلم صدام حسين ظلاما وليس فقط ظلماً. ولسنا هنا بحاجة إلى ذكر كل أشكال التنكيل الذي إتبعه ضد الطائفة الشيعية حتى أصبحت مدينة قم ملجأ لكثير من رجال الدين سيما وفي قم مدرسة حوزوية موازية لحوزة النجف.

كان الشيعة ورجال الدين منهم أبان الحقبة الملكية وما بعد الملكية من حقب يجولون الأرياف ومناطق الأهوار ومناطق الجنوب فيتوزعون على بيوت الموسرين من أبناء الشيعة وقسم منهم يسافر إلى الكويت البحرين والكويت ودبي والشارقة وأبو ظبي ويقيمون المجالس الحسينية للطائفة الشيعية.

فيحصلون على بعض المال وحضور ولائم الطعام الدسمة في رمضان وفي أيام عاشوراء، ولأن الوارد المادي لم يكن يكفيهم فقد زادوا من المناسبات الدينية، وأصبحت المجالس الحسينية لا تشمل أيام عاشوراء ورمضان فحسب بل أصبحت مناسبات ميلاد وموت الأئمة المعصومين مناسبات لقراءة المجالس الحسينية حتى باتت المناسبات شهرية وأسبوعية، إذ لا يمر شهر أو أسبوع إلا وفيه مناسبة. وكانت حصة الواردات تتوزع على تلك الفئة التي لم تكن من السعة ما يخلق حالة من البطالة.

كان الناس يخافون الإلتحاق بالمدارس الحوزوية بسبب حجم الإضطهاد وخاصة الفترة الظلامية الصدامية لأنه كان ينكل برجال الدين الشيعة. وكان رجال الدين السنة قد تعرضوا أيضا لملاحقة وإضطهاد سيما عندما طلب منهم ناظم كزار مدير الأمن أن يوافوه بتقارير أسبوعية بعد كل صلاة جمعة لمراقبة تنظيم الأخوان المسلمين وحزب التحرير أثناء صلوات الجمعة في الجوامع.

واليوم وبعد أن قفز مرسي إلى السلطة ومع اتهامات تزوير نفذها العسكر لمساعدته، إنقلب ضدهم بعد فترة قصيرة من الوقت ووقف مخاطبا الناس من خلال مقر الأزهر quot;يا أصحاب العمائم، أيها الناسquot; وهكذا تنكشف لعبة الإسلام وأخوان الإسلام لتلدغ الأفعى الكامنة داخل العمامة أقرب المقربين إلى الإسلام، الجناح العسكري، معتقداً هذا الجناح أنه سحب منه الصلاحيات الدستورية، فيطيح مرسي بهم ويقف أمام أنصاره مخاطبا إياهم يا quot;أصحاب العمائمquot;.

لقد نجحت العمائم السنية في البلدان العربية في تسلم السلطات السياسية ويريدون تطبيق الشريعة الإسلامية، فيما الشريعة لا يمكنها أن تتلائم مع العصر ولا يمكنها أن تغطي متطلباته المتطورة والمعقدة وهي أي الشريعة ليست قانونا وضعياً، لأن العصر لا علاقة له بواقع قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام ولهذا السبب عندما حاولت الكنيسة السيطرة على الواقع في العصور الوسطى فشلت ودمرت الحياة حتى تمكن المجتمع الغربي من عزل السلطة الدينية عن السلطة السياسية والإقتصادية والثقافية بأن أنشأ لهم قانون الفاتيكان وشروط تعامل الدين مع الحياة. لكن المسلمين في العالم وبتحريك من الغرب ومن بلدان محددة في الغرب وبعد أن عرفت قدرة الدين على تدمير الحياة صدرت هذه اللعبة لمناطقنا وأحكمت قبضتها على مواقع الثروات في جانب والمواقع الستراتيجية في جانب آخر.

تختلف العمامة السنية عن العمامة الشيعية في أنها تتجه إلى الأعلى فيما العمامة الشيعية تغطي كامل الرأس مع عباءة عند الشيعة التي في أغلبها سوداء مختلفة عن الجبة عند السنة في شكلها وألوانها. وهذا الإختلاف في شد العمامة وتكوينها ليس سوى تمايز ديني حتى يمكن معرفة رجل الدين وإنتمائه الطائفي من خلال عمامته فيما إذا كان سنياً أو شيعياً وهو ما يشبه الخلاف في وضع اليدين في الصلاة أو طبيعة الأذان عند الطائفتين. وكلها أمور شكلية تؤكد وتعمق الخلافات الفكرية والمذهبية وتقود البلدان نحو الخراب وثرواتها نحو النهب.

سقط نظام الدكتاتور العراقي ضمن لعبة المتغيرات لتشكيل حقبة جديدة في كل المنطقة الواحد بعد الآخر شيعيا كما في العراق وسنيا في بقية المناطق حتى يزداد ويتعمق خلاف المجتمعات التي تجمعها لغة واحدة وقومية واحدة ويسود أغلبها دين واحد، سقط نظام الدكتاتور العراقي بقوة أمريكية وليس بإرادة وشجاعة عراقية وهو أمر مؤسف حيث أصبحت مقاليد الحياة العراقية السياسية والإقتصادية والثقافية في quot;حوزةquot; الأمريكيين، ثم إنتقلت إلى حوزة السلطة أو إلى سلطة quot;الحوزةquot;!

لم يكن جورج بوش ولا باراك أوباما حاسري الرأس بل كانا بعمامتين! وتحت كل عمامة أفعى أيضاً! ثم صدروا لنا كل أشكال الأسلحة الجرثومية المتمثلة بالأفاعي السامة داخل العمائم البيضاء والسوداء! فتسلمنا سلطة كان المجرم صدام حسين مقارنة بها ملاكاً! ويمكننا هنا أن نعرف حجم الكارثة وحجم المهزلة في ذات الوقت! فجاءنا حكام معممون بالأقمشة أو معممون بدون أقمشة وقد لف كل واحد منهم عمامته على جسد أفعى سامة وقاتلة، لا تقتل الحاضر فحسب بل فيها قدرة قتل الماضي والحاضر والمستقبل وهذا ما نلمسه لمس اليد ونراه رؤية العين في وطننا اليوم الذي يذبح من الوريد إلى الوريد من قبل كل أصحاب العمائم!

فهل الإسلام هو سلطة دينية مدمرة أم المسلمون هم السلطة الدينية المدمرة؟ وهل ثمة إختلاف بين الإسلام والمسلمين؟ أو بين المسلمين والإسلامويين؟!

نعم هكذا يراد للمنطقة أن تحكمها قوى دينية مخيفة. قوى دينية ملتبسة الفكر والشخوص في تكوينهم السيكولوجي والبيولوجي. فأحكمت إيران قبضتها الدينية على السلطة السياسية وبدأت تمتد إلى العراق، وبدأت التغييرات في تونس وليبيا واليوم في مصر وغداً في اليمن وبعدها الجزائر والمغرب لتنتقل المرحلة من الدكتاتوريات المقيتة إلى قتلة الخير ونهب الخيرات وقتل الإبداع وتحويل الحياة الإجتماعية والإنسانية إلى حياة جافة خالية من العطاء الجميل فتبدو المنطقة صحراء خالية من النخيل النباتي والنخيل الثقافي.. أفق فارغ لا تهب فيه سوى ريح السموم المدمرة!

وهذه أول تجربة أمريكية في هذا الإتجاه الديني، وهي تجربة مدمرة في تاريخ المنطقة والتي حصلت في العراق لنرى مراحل التدهور في شرعنة اللصوص والسرقات وفي شرعنة الجفاف وفي شرعنة الخيبة عند الناس وهم يمشون بلا وعي نحو مستقبل مجهول لا أحد يعرف شكله وشكل الخراب الذي سيحل فيه. أن تفاصيل الموت والتدهور الحاصل في العراق هي تفاصيل تنشرها كل الصحف وكل وسائل الإعلام كل يوم وهي مخيفة حقاً، ولا أحد يكترث! ولأول مرة ربما في التاريخ يتكون بلد، وبلد ثري ليس فيه أي شكل من أشكال النظام حيث لا دولة ولا مؤسسات ولا حتى مواطنين! فالعراق الذي رأيته بعد غياب طويل بدا لي أشبه بحسينية ثرية فيها ثريات باذخة أو أشبه بجامع فيه كل فسيفساء الأحجار التي لا تقدر بثمن ويقف عند بوابات هذا الجامع أو تلك الحسينية كل مواطني البلاد وهم يمدون أياديهم يصيحون في كورال غير متناغم quot;يا ألله من مال الله. عطايا قليلة تدفع بلايا كثيرة دون أعماركمquot;!

المؤسسة الدينية التي تحكمنا اليوم في العراق هي سلطة قمعية هي نفسها تلك المجموعة التي قتلت الحسين عطشاناً في كربلاء. هي نفسها التي حرمته من ماء الفرات الجاري. هي نفسها التي قطعت كفي العباس وإحتزت رأس الحسين. وها هي اليوم تقطع أكف الناس بالمفخخات وتحرم العراقيين من ماء الفرات الجاري حيث لم يعد صالحاً للشرب وهم غير معنيين بذلك الماء الملوث الذي يقتل المواطنين لأنهم يشربون الماء المنقى ويطبخون بمياه العيون الجارية!

لقد لعب ذات الشخوص دورين في تلك المسرحية، لعبوا دور الجلاد ولعبوا دور الضحية ثم لعبوا ثانية دور الجلاد. فبعد أن قتلوا الحسين أبدلوا ملابسهم وساروا نحو الضفة الأخرى يبكونه، وهم الذين واجهتم زينب بالقول quot;أتعجبون لو أمطرت دما!؟quot;

إن كل طفل يتيم من أطفال العراق هو حسين في هذا العصر. وكل أرملة من أرامل العراق هي زينب في هذا العصر! إوكل مبدع عراقي محروم من الوطن وخيرات الوطن وحق الوطن عليه وحقه على الوطن هو حسين مقتول في داخل الوطن ومهاجرخارج الوطن!

شاهدت في مناسبة دينية يلقي فيها رئيس المجلس الإسلامي خطابا يبكي فيه العقيلة زينب والرضيع عبد الله والمريض السجاد ثم يلقي بعده الرادود زجلا حسينيا، وكان أصحاب العمائم المعممون منهم وغير المعممين وقد أحنوا رؤوسهم ووضعوا جباههم بين السبابة والأبهام وهو ينودون برؤوسهم مدعين البكاء ثم عندما أخذ النغم إيقاعياً صاروا يرفعون أياديهم وبحركات إيمائية يؤدون الحركات كمن يضرب على صدره. كان بينهم نائب رئيس الوزراء والناطق الرسمي quot;في الأقل لمحت هؤلاءquot; لأن كثيرين مثلهم ينودون مطأطئي الرؤوس. والله أني رأيتهم والله وهم يضعون أياديهم في الحركات الإيمائية على جيوبهم كي يتحسسوا حجم المال الحرام.!

أحد أمرين.. أما أن يكون الحسين طالب سلطة وطامع في خزينة مال المسلمين فأنتم حقاً أتباعه وقد نفذتم ما كان يرنو إليه وحققتم ما فشل هو فيه، أو أن الحسين ليس كذلك وهو القائل حقاً quot;لم أخرج أشرا ولا بطراً إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي آمر بالمعروف وأنهي عن المنكرquot; فذلك يعني أنكم لستم أهلا به وأنتم قتلته ولستم أحفاده ولا أتباعه ومناصريه وقد جئتم بلبوس ممثلين كنتم في صفوف الأعداء فلبستم لباس المحبين ومثلتم شخوص الندم والبكاء وتمسكنتم حتى تمكنتم. فالذي يحب الحسين يزرع طريق الطف ريحانا، ويخرج من باطن الأرض الماء الزلال ويشيع الفرح في عيون أهل العراق وتصدح السعادة في سماء الوطن ويقطع يد السارق ولا يتركها تلوح بملفات إدانة كل واحد للآخر، وتلوح بالخطابات الجوفاء والخرافات من فوق منابر الحسين أو من أمام كاميرات التلفزة الفضائية!

جلست في حضرة الإمام الحسين عليه السلام في أول أيام شهر رمضان هذا العام 2012 وأنا أسمع نواح الأمهات والثكالى ينادين الحسين يطلبن الرحمة والشفاء لأبنائهم المرضى بشتى أمراض السرطانات التي زرعتها القوى الغاشمة في أرحام الصبايا وفي أرض العراق المقدسة، فتصورت الحسين متململاً في مرقده وهو يستمع إلى نواح ونداء الأمهات ويسمع عن كثر ما نهبتم بإسمه ومن كثر ما أوغلتم في الجريمة والفساد بشرفه ومن كثر ما أنتجتم من يتم الطفولة وضياعها بإسم أهل البيت، أتصور الحسين خارجاً من مرقده الشريف حاسر الرقبة وليس حاسر الرأس يسأل عن رأسه المدفون في جدار كنيسة حنانيا في الشام منادياً:
أيها الناس.. لا تبكوني، فما تألمت من حد السيف في العانق بل تألمت لموتكم دونما قضية، لا تبكوني فما بكيت غربتي في الطف إنما أبكي غربتكم في أرض طف الرافدين. لا تبكوني فما تألمت من عذاب الظمأ بل تألمت لعطشكم وأنتم على ضفاف الفرات العذب، وما خفت ظلام القبر بل خفت عليكم من عتمة الحياة، وما بكيت وحدتي بلا ناصر ولا معين، بل بكيت من أجلكم وأنتم دونما ناصر ولا معين. الذين كتبوا لي أن أقدم إلينا قائلين quot;ليس لنا هوى بسواك فحيهلاquot; كذبوا فلا تصدقونهمquot;!

أتصور الحسين يقف أمامهم ندي الدم لا يزال وهو ينادي الناس أن يستيقظوا فيتراكض كل رجال الدولة آتين من المنطقة الخضراء ومن البرلمان ومن الحسينيات الفضائية فيقفون في مواجهته ويخرجون بنادقهم الرشاشة من تحت العباءات ويمطرونه بالرصاص فيتهاوى ثانية في الحلم دون أن يركن في القرار!

كاتب وإعلامي عراقي مقيم في بريطانيا
[email protected]