اسهام في دراسة تطور النظام السياسي العراقي

بداية أود التنبيه الى أن ذكر مصطلح الدكتاتورية بين هلالين هو للتأكيد على أنها ظاهرة في طور النشوء وليست ممارسة مكرسة في اطار نظام متكامل معها. من جهة أخرى، ليس المقصود من هذا المقال انتقاد شخصية معينة أو امتداح أخرى بل نحن بصدد ملاحظات موضوعية حول تطور النظام السياسي القائم في العراق والغرض من ذلك رصد وتشخيص ظاهرة خطيرة (نشوء ممارسة quot;دكتاتوريةquot;) ينبغي على الجميع الانتباه اليها ومحاصرتها والا فانها سوف تقضي على المكاسب الديمقراطية وتؤدي بالبلد الى هاوية حقيقية...
يعلم الجميع أن هناك مؤاخذات مهمة على رئيس الوزراء لا سيما من قبل رؤساء الكتل السياسية ولكنه كزعيم لقائمة دولة القانون يمثل بشخصه أيضاً أحد هؤلاء الرؤساء، لذلك فهو مقصود عند الكلام عنهم بشكل عام رغم تمييزه كرئيس للوزراء في حالات ذكر المواجهة معهم. يبقى أن أساس الموضوع هو تشخيص الممارسة quot;الدكتاتوريةquot; ومنبعها في البيئة التي تعمل فيها الطبقة السياسية الحاكمة (كالوزراء ورئيس الحكومة والنواب ورؤساء الكتل والمقربين منهم). والمطلوب تقديم الصورة الواقعية للوضع الخطير الذي تعيشه البلاد حالياَ ومحاولة طرح الحلول. أما بالنسبة للاطار العام الذي يهم الموضوع الحالي، فنحن بصدد عملية سياسية تهدف الى تأسيس وبناء الدولة الديمقراطية الملتزمة بقوانين نابعة من الدستور. ومهما كانت ثقافة وديانات وتقاليد البلد المعني، فان الدولة الديمقراطية تستند على ثلاث دعائم أساسية وهي: 1/ الانتخابات ذات المصداقية وترجمتها الى مقاعد نيابية وحكومة تعكس النتائج الحقيقية لهذه الانتخابات، 2/ الفصل بين السلطات الذي تبناه الدستور العراقي (المادة 47)، أي أن لا تمسك أية مجموعة أو أي فرد بالسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وأن تستطيع كل سلطة منع السلطات الأخرى من التدخل في عملها، 3/ احترام الحريات العامة والفردية مما يعني أن مؤسسات الدولة تضمن تنفيذ القوانين الحامية للحريات وتمنع مظاهر التسلط المختلفة وأية ممارسة تحد من حرية المواطنين في اطار القوانين المذكورة.
تقدم اجتماعي quot;وفشل سياسيquot; !
في هذا الاطار نلاحظ أن التجربة العراقية أنجزت منذ 2003 وبالتدريج خطوات كبيرة وبالذات على مستوى الحريات العامة كتأسيس الأحزاب وحرية العمل النقابي وتأسيس ثم تحسين عمل منظمات المجتمع المدني، الخ. كذلك الأمر على مستوى الحريات الفردية كحرية الرأي والاطلاع (الكتب أو الأنترنيت) والسفر واستخدام وسائل الاتصالات والقنوات الفضائية. هذا التقدم أعطى ولا زال يعطي ثماراً كبيرة خصوصاً بفضل مبادراة وحيوية العراقيين لرغبتهم في الاطلاع وتوجه الكثيرين منهم الى التعاون لخدمة الصالح العام ومساعدة الآخرين.
في المقابل ورغم تثبيت الهياكل السياسية المطلوبة خلال الفترة الأولى بعد تبني الدستور، عام 2005، بدأ التطور السياسي بالجمود بل والتراجع خصوصاً بسبب ممارسات الطبقة السياسية الحاكمة (رؤساء الكنل والمقربون منهم) والتي نختصرها بتقاسم السلطة في اطار ما يسمى بالمحاصصة وبالتشبث بل والصراع على المواقع وازدياد عدم الثقة بينهم ولجوء العديد منهم الى البحث عن الدعم الخارجي رغم كلامهم جميعاً عن ضرورة الحوار وتغليب المصلحة الوطنية... وبذلك ساهموا في تعقيد واعاقة التنمية السياسية (والثقافية) وكذلك الاقتصادية (والخدمية) من خلال تغطيتهم على سوء الأداء من قبل مرشحي كل منهم للمواقع العليا في البلد وتواطئوا على هذا الأمر، لذلك فعندما يتجرأ أحدهم بعرض ملفات معينة، نلاحظ ممارسة التهديد من قبل quot;المستهدَفينquot; بعرض ملفات تدينه هو وأعوانه المقربين.
هذا الوضع أدى بداهة الى اضعاف المكتسبات الديمقراطية كتثبيت ثقافة احترام القوانين وقيم التفاني واحترام الرأي الآخر في العمل السياسي وفي المجتمع والى تأخير تشريع القوانين المهمة أو تشريعها ضمن quot;سلة واحدةquot; قائمة على توافق الكتل وتبقى قوانين حماية الفقراء والنفط والغاز وغيرها تنتظر لحد الآن، بينما صوّت النواب بايحاء رؤساء الكتل على ما أسموه بالجلسة المفتوحة لعدة شهور!! وعلقوا بذلك مصير البلد وتشكيل الحكومة، عام 2010، ولم يتوقف ذلك الا بفضل مبادرة منظمات المجتمع المدني برفعها دعوى قضائية انتهت بانصياع النواب ورؤساء كتلهم للاجتماع والتسريع باختيار رئيس مجلس الوزراء. هذه الحكومة التي سميت بحكومة الشراكة الوطنية (أي المحاصصة) عانت من عسر الولادة ثم من الاعاقة الذاتية في عملها. اضافة الى ممارسات أخرى في نفس الاتجاه.
استند رؤساء الكتل الى ضرورة التوافق على حكم العراق وقدم لهم بعض المثقفين لتبرير هذه المأساة مبدأ (الديمقراطية التوافقية) وذلك بالخلط بين بلدان أفريقية (عرفت ملوك الطوائف والقبائل قبل تأسيس دولها الحديثة) مع وضع العراق الذي نجحوا، بقصد أو بدونه، والى حدِ ما في تحويله على صعيد الواقع (أي مهما كانت التسميات) الى ما يشبه دولة ملوك الطوائف والأثنيات في أفريقيا. مع أن الطوائف والأثنيات لم تعرف في العراق ملوكاً أو رؤساء توارثوا حكم كل منها بالانفصال تماماً عن باقي المكونات وعن البلد الكبير، وعلى كل حال نحن لسنا، في العراق، بصدد بلد يراد انشاؤه كما حصل في أفريقيا خلال القرن الماضي...
وبذلك تنهار الحجة الثانية التي استند اليها زعماء الكتل وهي أن العراق لا يمكن حكمه من قبل أغلبية تقابلها معارضة كما في البناء الديمقراطي السوي، بفرض أن العراقيين هم سنة وشيعة وكرد متقابلون في حكم البلد كل ازاء الآخر (وكأنهم خصوم بل وأعداء) وفرضوا عملياً هذا الافتراض على العراقيين مما أدى الى تقوية هذه التقسيمات الطائفية والأثنية بينهم مما ساعد أعداء العراق في تأليب العراقيين على بعضهم البعض، خصوصاً سنوات 2005-2008، ولا زلنا نعاني من مطبات هذا الفخ. وقد شكلت هذه المحاصصة تمييزاً ضد بقية المكونات (من المسيحيون والتركمان والصابئة والايزيدية والشبك) وشكلت بذلك خرقاً للدستور (المادة 14)، وبذلك يمكن التفكير برفع دعوى قضائية من قبل ضحايا المحاصصة ضد الممارسين الرئيسيين لها وذلك لأنها تشكل ظلماً كبيراً بحق أفراد الجماعات الأساسية في العراق من غير المكونات الثلاثة وسبباً لتناحر قادة كل مكون فيما بينهم على المواقع (الخلافات و الانشقاقات) والى تقسيم العراقيين بشكل عام.

من جهة أخرى، أدت المحاصصة وبصورة عملية الى ضرب مبدأ الفصل بين السلطات الذي اعتمده الدستور كأي دستور ديمقراطي. فرؤساء الكتل يمارسون العمل الحكومي (التنفيذي) من خلال وزرائهم ويمارسون العمل النيابي (التشريعي) ويؤثرون عليه كما ذكرنا من خلال نواب كتلهم وهم يطمحون على الأقل الى التأثير على السلطة القضائية من خلال تشكيل مجالس القضاء (وفق المحاصصة)، اضافة الى تأثيرهم القادم على مجرى الانتخابات (تشكيل مفوضية الانتخابات) وربما سيأتي دور البنك المركزي وعمل السياسة النقدية التي لازالت مستقلة... سيتزايد تدخلهم هذا مع تنامي نفوذهم، ومع الزمن سيشكل هذا الجمع (الفعلي) بين السلطات لهذه الجماعة الحاكمة (مجموع رؤساء الكتل والمقربين منهم) أحد الملامح الرئيسية quot;للدكتاتوريةquot; الناشئة في ظل دستور ديمقراطي ورغم رفض بل واستنكار صاحب الشأن (الشعب العراقي وقواه الحية) !!

خطر النظام الأوليكارشي
وهكذا فان السبب الأساسي لتدهور النظام السياسي يكمن، في رأيي، في هذه المحاصصة وما أنتجته من امساك مجموعة محدودة (رؤساء الكتل والمقربين منهم) بأساس السلطة خارج السياقات الدستورية ومن تفاهم (أو تصارع) بينهم ونمو ما يمكن تسميته بظاهرة quot;حكم أوليكارشي أو quot;دكتاتورية جماعةquot; في اطار البناء الديمقراطي!! وبسبب المحاصصة التي كرسوها، رغم ادانتهم اللفظية لها. فبالاضافة الى حكومة الشراكة الوطنية (أو المعركة الوطنية) واعاقة العمل التشريعي والرقابي لمجلس النواب وتواطئهم الجماعي بشكل عام على تغطية الوزراء والوكلاء وغيرهم بتبادل السكوت عن قصورهم وتقصيرهم، تفشت هذه الظاهرة في مواقع السلطة الأخرى حيث يمارس النواب دورهم في انتشار هذه الممارسة وعبر العديد منهم عن نفس خطاب المكونات ومظاهر المداراة لبعضهم البعض حماية لموقعم ازاء الآخرين وتعزيزاً لها قبال السلطة التنفيذية مثلاً وبشكل عام ساهمت هذه المحاصصة في تفشي مظاهر سوء الادارة في المرافق المختلفة.
وهنا بالتحديد نلاحظ هنا أن تشخيص هذه quot;الدكتاتوريةquot; الجماعية يساعدنا، ضمن أمور أخرى، على تفسير الظاهرة الخطيرة المتمثلة باستمرار الأداء السيء للوزارات والمؤسسات لا سيما الخدمية وكذلك المحافظات عموماً رغم اجتيازنا لعدة محطات انتخابية. فمع التفهم لصعوبة وضخامة الأهداف المطلوب تحقيقها ولضعف التكوين العلمي والاداري لدى المسؤولين عنها وأيضاً لما تم تحقيقه من ايجابيات هنا وهناك، لا تزال الممارسات اللا قانونية وحتى اللا أخلاقية أحياناً رغم تفعيل مؤسسات النزاهة والمراقبة المختلفة وتنامي الغضب الشعبي وسخط الرأي العام.
في هذا السياق، فان توجيه الاتهام فقط لرئيس الوزراء بممارسة الدكتاتورية يشكل، في اطار هذا التحليل، جزء من مظاهر التطاحن بين رؤساء الكتل ضمن صراعاتهم المستمرة للحفاظ على ما يعتقد، أو يزعم، كل منهم بأحقيته في هذا الموقع أو ذاك. فرغم كل المؤاخذات على أدائه ومستشاريه، لا يمكن منطقياً أن يمارس رئيس الوزراء دكتاتورية لوحده في بيئة صحية بل ان الممارسة السياسية ونوعية العلاقات السائدة بين الكتل ورؤسائها مسؤولة على الأقل عن بعض المؤاخذات عليه. ثم ان غالبية الوزراء ينتمون الى الكتل الأخرى وبعضها معارض بشدة له ولسياسته التي هي أصلاً هجينة بفعل التواجد الكبير لهؤلاء في حكومته في اطار ما أسموه بحكومة الشراكة الوطنية. أما quot;الدكتاتورية الأوليكارشيةquot; لرؤساء الكتل فملموسة اذ تشكل المحاصصة حالياً quot;سرطان الديمقراطية العراقيةquot; ويجب استئصاله فبل فوات الأوان والا فانها ستشكل تهديداً خطيراً للنظام الديمقراطي.

الحل:
نستنتج من كل ذلك ضرورة هذا التشخيص ليس فقط لفهم التجربة الحالية ورصد جذور ومظاهر المنحى الدكتاتوري لدى الماسكين بالسلطة بل وأيضاً للتمكن من صياغة المقترحات بهدف تصحيح هذا الوضع قدر الامكان: 1/ العمل على الغاء المحاصصة الدينية والطائفية والأثنية، ولو بالتوجه الى القضاء كما ذكرنا، وذلك لانهاء تقاسم السلطة على أساسها مهما كانت الدوافع (النبيلة ربما) ومبررات المدافعين عنها، 2/ عودة الكتل ورؤسائها الى دورهم الطبيعي ككتل نيابية وتنظيمات تمارس (أو تشارك في ممارسة) السلطة أو تساهم في كبحها وتوجيهها كمعارضة اذ لا يمكن ممارسة الدورين معاً، 3/ نشر الثقافة الديمقراطية القائمة على أهمية ممارسة جميع الكتل والتنظيمات نشاطاتها الطبيعية لكسب الرأي العام (والانتخابات) لصالحها في كل الأحوال (سواء كانت في المعارضة أم في الحكومة) مع احترام الجميع لحدود القانون ودون المساس بالمصالح الوطنية المشتركة.
ويمكن التأكيد على أن العراقيين ان استطاعوا الغاء المحاصصة فسيمثل ذلك القضاء على أهم عوامل التدهور والظلم الذي سببته (أي المحاصصة) في حياتهم اليومية وفي نظامهم السياسي الحالي، وسيشكل ذلك تطوراً أساسياً: فمثلاً مشروع المؤتمر الوطني (مع ورقة الاصلاحات)، الذي فشلت الطبقة السياسية الحاكمة لحد الآن في انجازه بسبب حرب المواقع والمناصب، سيُمكن عقده بصورة أكثر فعالية وسلاسة لصالح العملية السياسية الهادفة الى تثبيت النظام الديمقراطي في العراق. وسيتمكن السياسيون العراقيون معاً (ومهما كان تمثيلهم في مجلس النواب) بصورة أفضل من تعديل قانون الانتخابات في اتجاه عدالة أكبر، وبدون التركيز على المكون الديني والطائفي والأثني سيصبح تطبيق مبدأ الشخص المناسب في المكان المناسب أكثر واقعية وسيُفتح الباب أمام الكفوئين والنزيهين لأدارة لقطاعات المختلفة. كذلك سيتمكن السياسيون العراقيون وبضمنهم رؤساء الكتل الحالية (بدون المحاصصة) من اجراء تعديلات الدستور بناء على التجربة الماضية وعلى محاربة أكبر للفساد ولمظاهر التسلط من أية جهة كانت. بالغاء المحاصصة سيعود رؤساء الكتل الى وضع شبيه بالأعوام الأولى، بعد 2003، أي بدون تعقيدات الفترة المنصرمة وحساباتها التي أصبحت مصدر خلافاتهم ودفعتهم دون قصد الى التأثير سلباً على مصير العراق السياسي بأكمله.
ان الغاء المحاصصة الدينية والطائفية والأثنية وما تعنيه من تقسيمات لن يُدخل العراق في جنة مثالية ولكن سيُهيء بالتأكيد ظروفاً أفضل لتثبيت ركائز النظام السياسي بقوانينه ومبادئه الانسانية والديمقراطية، وسيتمكن العراقيون من تقوية لحمتهم وتوثيق وحدتهم الوطنية وتكريس مشاركتهم في بناء مستقبلهم الواعد.

[email protected]