أنت أيها العربي الجالس في إحدى مقاهي القاهرة أو الموظف الشاب في شركة نفط ليبية أو الطالبة في إحدى جامعات سوريا، قررتم بعد طول صبر أن تثوروا على أوضاعكم المتكلسة الجامدة التي هي نتيجة فشل مجتمعاتكم والأنظمة التي حكمتها في أن تبني على الواقع أي قيمة من قيم المجتمع والدولة الحديثة التي من المفترض أن تكونوا أنتم مالكيها.

أنتم أحفاد مزارعين وصيادي أسماك وحرفيين وأصحاب حرف وصنايع وتجار سوق وبازار وملاك أراض ورجال دين وسكان مدن وريف وبادية، أجدادكم عاشوا في بيئات نستطيع أن نصفها اليوم بأنها تنتمي لعالم القرون الوسطى حيث كانت حياة جدك وكيف يعيشها، فرص تحسين وتغيير قدره، احتمال أن يبدأ من جديد إذا سقط وأخطأ، محدودة ومربوطة بتركيبة جماعته التي تتشابك فيها مصالح الأقوياء والأغنياء مع مجموعة قيم اجتماعية وروحية تبرر ظلم الظالم من ناحية، ثم تقدم العزاء للمظلوم عبر فتاوى ومقولات دينية تحبب الصبر والرضا بالحال.

هكذا عاش أجدادكم في العصر العثماني ثم تحت الإستعمار الأوروبي وفي بداية عهد الاستقلال، حيث الدولة هي المالك الأكبر لكل موارد البلاد وبالذات الأرضي، وحيث ملاك الأراضي يقومون بجباية الضرائب للدولة أيضاً، وحيث التجار (وكانوا في حالات كثيرة من ملاك الأراضي) هم شركاء الحاكم وعائلته في ثروة البلد. من ناحيتهم كان بعض رجال الدين جزءاً أصيلاً في هذا الحلف؛ فكانوا يقومون بوظيفة غسل مخ المجتمع (التي ستتولاها أجهزة الإعلام لاحقاً) من خلال اسباغ هالة قدسية وأبوية على الحاكم، وتبرير قراراته مهما كانت مخالفتها لقيم العدالة أو حتى للذوق العام. فهم يؤمنون بأن الحاكم الظالم خير من الفوضى، وهم يرددون بسعادة وخبث مقولة الإمام الغزالي quot;إن الولاية لا تتبع إلا الشوكة (القوة)، ومن أشتدت وطأته وجبت طاعتهquot;.
أما آبائكم الذين عاصروا مرحلة ما بعد الإستقلال في الخمسينات والستينات فقد شاهدوا مجموعة جديدة من القيم تزاحم وتشارك قيم أجدادهم، مثل: عنف الدولة العاري ضد رعاياها أو مواطنيها، تبنّي وترويج عقيدة تأليه الحاكم وربط شرعية الدولة بها، الخوف على الحياة والوجود الإنساني ذاته وهو مالم يحصل حتى في أسوء أيام الأجداد، الحس الأمني الذي تخلل كل مفاصل الحياة العامة والخاصة حتى وصل الأمر لأن يتم إعادة تصميم مركز إحدى العواصم العربية بحيث تسهل مهمة التحكم بالمواطنين ومطاردتهم من قبل قوى الأمن والشرطة السرية.

هذة القيم التي ذكرنا طرفاً منها صعدت للسطح مع صعود أبناء الفقراء والأقليات وشرائح المجتمع التي كانت مهمشة في عصر ما قبل الإستقلال لمراتب القوة والنفوذ نتيجة منحها فرص التعليم وفتح مؤسسات الدولة وبالذات المؤسسة العسكرية أمامهم.
صعود هذه الطبقة الجديدة في أغلب البلدان العربية رافقها تناحر مصالح مع الطبقة القديمة، ولكن لم تختلف قيم كل هولاء عن بعض، جميعها إلتقت في الجوهر على الاستبداد والتسلط وتبرير الفساد واستباحة الدولة ومواردها كغنيمة مستحقة.

الذين قدّر لهم زيارة بلدان الربيع العربي قبل انطلاق شرارة الثورات وهي تغرق في حالة غير مسبوقة من تزاوج قيم الأجداد والأباء، راودتهم فكرة أن شعوب هذه المنطقة ستستفيق من حالة الغيبوبة واللامبالاة الأشبه بالموت التي قضت فيها العقود الفائتة إلى فجر جديد من الإحتمالات.
هذه الغيبوبة واللامبالاة لم تكن لتهتز لولا أن الدولة العربية لم تعد قادرة على الوفاء بالحد الأدنى من متطلبات الحياة لجموع شعوبها. وفي الوقت نفسه لم يعد خيال السلطة العربية قادراً على تقديم أي حلول مبتكرة لتحديات التنمية المخيفة، وهو ما لا نستغربه فكيف نتوقع من رجال يتصرفون وكأنهم أعضاء في رابطة مافيا كبرى، مع احساسهم الطاغي بملكية البلاد والعباد، ومؤهلاتهم التي لا تتجاوز التوحش الأمني أن يفقهوا شيئاً من سياسات وآليات النمو الإقتصادي وأن يتأملوا الطفرة الإنمائية والديمقراطية في بلدان الشرق والغرب ليخرجوا منها بأفضل العبر والدروس لنا.

حدث الإنفجار ونزلت الجماهير للساحات والميادين. كان التوقع السائد أن ماكينة الخوف وإرهاب الدولة العربية ستسحق هذه الإنتفاضات المباغتة لكن بدا واضحاً أن الشباب العرب أدركوا بذكاء الثوار أن المواجهة مع الدولة يجب أن تستمر للنهاية لحد اقتلاع روؤس الأنظمة الحالية، وجذور القيم التي بررت وجودها وأطالت عمرها.

وهذا ما يهمنا الآن : البحث عن قيم عربية جديدة تستبدل القديمة وتستطيع أن تجاوب على أسئلة مثل: هل الإنتماء للطائفة أهم من الوطن؟ هل نؤمن بحق الأفراد في تقرير مصيرهم، أو بوضع خيارات الجماعة فوق الفرد؟ هل نفضل الواسطة والمحسوبية أم أننا نؤمن بتوفير فرص متكافئة أمام الجميع؟ هل نؤمن بالديمقراطية التي تعطي كل فرد فرصة أن يمتلك حصة من وطنه، أم نميل لحكم الزعامات والطوائف الذي يحول الوطن إلى مزرعة؟

حتى الآن لا توجد هناك إجابات واضحة لهذه الأسئلة، وستجد بالتأكيد أن لكل منا إجابته الخاصة. هل من الممكن الوصول لتوافق حول قيم عربية جديدة؟ نعم. هناك طبعاً الكثير من التشكك والاحباط، ولكن إن استمرينا في البحث عن أجوبة فسنصل بالتأكيد إليها، وهو ما سيترك بصمة هائلة على مستقبل دولنا ودساتيرنا وعقودها الإجتماعية والوجهة التي ستتجه إليها بلداننا.