فى بداية الأربعينات من القرن الماضي كانت عائلتنا تسكن دارا قريبة من ساحة الوصي (النهضة حاليا) فى بغداد الشرقية، ويومها كنت مع أطفال الجيران نراقب خط الباصات الجديد والركاب الذين يتزاحمون للصعود الى الباص، فلاحظت ان من بين المتدافعين صبيا عمره حوالى 16 سنة يمد يده الى جيوب بعض من كانوا من حوله وشاهدته وهو يخرج شيئا من جيب أحدهم ويضعه فى جيبه، فأسرعت الى شرطي كان يقف قريبا وخبرته بما رأيت، فانتهرنى بشدة وهدد بضربى، فابتعدت ولكنى وقفت أرقب ما يحصل من حيث لايرانى، فرأيت الصبي يخرج من الازدحام ويتجه الى زقاق قريب وتبعه الشرطي ورأيتهما يتكلمان ثم وضع الصبي شيئا فى يد الشرطي، وافترقا، وتركانى متحيرا لم أفهم حقيقة ما جرى. وفى المساء أخبرت والدى بالأمر فقال لى ان الشرطي والنشال شركاء، وعلي أن لا أخاطر بالاقتراب منهما ثانية.

عاطف العزي

فى ذلك الزمن كانت رشوة الشرطي بحدود واشر واحد (درهم) حينما كانت واردات العراق من النفط لا تزيد على 30 مليون دولار سنويا، وبعد ان ارتفعت الواردات وصلت الرشوة الى (ابو البايمباغ ) الذى هو الدينار الذى عليه صورة الملك فيصل الثانى وهو يرتدى ربطة العنق.

لم نسمع بالفساد المالي إلا فى عام 1948 وبداية الحرب بين العرب والصهانية فى فلسطين عندما ألقي القبض على التاجر العراقي اليهودي (عدس) بتهمة تزويد الجيش العراقي بالأسلحة الفاسدة، والغريب أن ذلك تزامن مع فضيحة الأسلحة الفاسدة فى مصر ايضا حينما كان يحكمها الملك فاروق وأدت بالتالى الى انكسار الجيش المصري أمام الصهاينة. حضرت إحدى جلسات محكمة (عدس) وانا فى سن الصبى ورأيت بعيني إستماتة المحامين العراقيين المكلفين بالدفاع عنه لإثبات براءته. ولم يكتفوا بذلك فقد راجعوا السفارتين البريطانية والأمريكية ببغداد متهمين الحكومة العراقية بتسييس محاكمة عدس. وفشلت جهودهم وتم إعدام عدس شنقا بعد أن أمضى بضعة أشهر فى السجن فى غرفة خاصة مبردة توفرت فيها كل وسائل الراحة بعد أن دفعت عائلته رشاوى كبيرة للمسؤولين.

ومع إزدياد مدخولات العراق من النفط، دخل العراق فى ازدهار إقتصادي نسبي، وتأسس مجلس الإعمار وتعددت المشاريع العامة الكبيرة، منها مشروع سد الثرثار، وفتحت شوارع جديدة عريضة فى بغداد والمدن الكبرى، وأسس القطاع الخاص مشاريع صناعية وزراعية كبيرة أيضا، وصاحب ذلك الازدهار الفساد المالي، فقد كان يفوز بالمناقصات من يدفع أكثر. وأشيع فى وقته أن إحدى الشركات البريطانية أنشأت دارا فى منطقة الصالحية من بغداد الغربية منحته الى نورى السعيد الذى كان رئيسا للوزراء.

ثم قامت ثورة الرابع عشر من تموز بقيادة الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم، الذى يعتبره العراقيون انظف من حكم العراق بشهادة أعدائه. ومع ذلك لم يخل عهده من فساد مالي، فقد كان أحد أصدقائي مهندسا فى أمانة العاصمة وحدثنى عن رشاوى يدفعها المتعهدون للمهندسين لقاء تفضيلهم على غيرهم لإنجاز بعض الأعمال التى تقوم الأمانة. ولكن لم يُسمع عن أحد من الوزراء أو المدراء العامين فر من العراق ومعه الملايين من الدولارات كما يفعلون الآن. ثم جاء العهد العارفي الذى دام خمسة أعوام تقريبا، واشتد فيه الفساد المالي مع زيادة مدخولات النفط، واستمر الوضع على ما كان عليه حتى عودة حزب البعث الى الحكم، فاستولى على كل المرافق المالية والاقتصادية فى البلد. وخشية من حصول إنقلاب جديد ضدهم فقد قررالحزب رسميا الاحتفاظ بنسبة معينة من واردات النفط فى حسابات خارج العراق. وكان صدام حسين يتصرف بأموال الدولة كما يشاء دون أن يجرأ أحد على معارضته، فكان يعطى من يشاء ويمنع عمن يشاء دون حسيب أو رقيب. وحتى على عهد أحمد حسن البكر كان لصدام الكلمة الأولى فى كل ما يخص أمور البلد ومنها المالية، فصرف مبالغ هائلة على تسليح الجيش الذى كان يعول عليه فى إنشاء امبراطورية كبيرة له فى الشرق الأوسط. واصابه الغرور فارتكب خطأً جسيما بالهجوم على ايران ونشبت الحرب التى استمرت ثمانى سنوات، أضطر فى خلالها الى الاقتراض من دول الخليج التى شجعته على شن تلك الحرب. وبعد سنتين من انتهاء الحرب التى أنهكت العراق وأفلسته ارتكب خطأ افضع من سابقه عندما قام بغزو الكويت، مما ادى الى تدهور العراق الى الحضيض، ففقد الدينار العراقي قيمته، فبعد أن كان يعادل 3 دولارات أمريكية أصبح الدولار الأمريكي الواحد يعادل أكثر من 3 آلاف دينار عراقي، بسبب الحصار الاقتصادي الذى فُرض على العراق، فلم يعد بامكان الدولة أن تدفع الرواتب لموظفيها، فابتدعوا ما سموه بـ(التمويل الذاتي) وهو فى حقيقته ابتزاز المواطنين الذين يراجعون الدوائرالحكومية لتمشية معاملاتهم، فأصبح الرشاوى علنية بعد أن كان سرية، واصبح الشرطة لصوصا وتفوقوا على اللصوص المحترفين.

ودام الحال على هذا المنوال حتى سقوط البعث فى نيسان 2003 وتشكل الحكم الجديد، وصرنا نسمع من وقت لآخر عن هروب وزير أو موظف كبير معظمهم ممن يحملون جنسيتين الى خارج العراق مع ملايين الدولارات. وخُصصت رواتب باهضة للرؤساء الجدد وللوزراء وأعضاء مجلس النواب لم تُعرف حتى فى أغنى دول العالم، وأصبح العراق واحدا من أكبر دول العالم فسادا وشعبه من أفقر شعوب الأرض. وحصل سباق (ماراثوني) لتهريب الأموال واستثمارها فى الدول القريبة والبعيدة. وكان أكبر حدث هو هروب حازم الشعلان الوزير فى حكومة اياد علاوي الانتقالية ومعه ملايين الدولارات التى حصل عليها من استيراد مدرعات للجيش من بولونيا لم يستلم العراق بعضها والبعض الآخر غير صالح. وكذلك الوزير الهارب أيهم السامرائي وزير الكهرباء الأسبق فى حكومة اياد علاوي، الذى حكم عليه بتهمة الفساد المالي والاداري، ويعيش الآن فى أمريكا التى يحمل جنسيتها.

وقبل أيام قلائل رفع وزير الاتصالات محمد علاوي ndash;قريب الدكتور اياد علاوي- استقالته من لندن التى تسكنها عائلته الى رئيس الوزراء الذى قبلها فورا، فكانت صدمة للسيد محمد علاوي الذى كان يأمل برفض استقالته، فبدأ بكيل تهم الفساد لأشخاص فى مكتب رئيس الوزراء لم يفصح عن هويتهم. لا أستبعد وجود فاسدين فى مكتب رئيس الوزراء، ولكن كان عليه تسميتهم ليطلع عليها الشعب المبتلى بالفاسدين.

لا يمكن القضاء على الفساد كليا، ولكن الأمور لا تشير الى أي تحسن ملحوظ بعد سقوط حكم البعث فى 2003، ومعظم ذلك يعود الى عدم استعمال الشدة مع الفاسدين المفسدين، وبدلا من تشديد العقوبات يناقش النواب فى هذه الأيام ما يطلق عليه اسم: قانون العفو العام، والمرجو أن لا يشمل سراق الشعب الذين لا يجوز التساهل معهم بأي حال من الأحوال. إن تدخل بعض الجهات الدولية بالشؤون القضائية فى العراق ومحاولاتها المستمرة فى إلغاء عقوبة الإعدام يجب رفضه بشدة، فالعراق ليس سويسرا أو السويد، فليمنعوا، ان استطاعوا، بعض الولايات الأمريكية التى مازالت تطبق فيها أحكام الاعدام. ويجب أن لا نسمح لأحد بالوصاية علينا فنحن أعرف بشؤون بلدنا من الغرباء.

المصيبة الكبرى أن بعض سياسيينا يذهب الى أمريكا ليقول لهم ان العراق تحت وصاية ايران، ويذهب الى السعودية ليقول ان القضاء فى العراق مسيس، ويذهب الى تركيا ويقول لهم ان العراق يسمح بدخول القوات والأسلحة الايرانية الى سورية عبر العراق. فهل هذه تصرفات عراقي يحب بلده حقا؟ هل يمكن ان تكون الخيانة ثمنا مقبولا لكرسي الحكم؟