أذكر ان التسعينات كانت مليئة بنفس المناظر، حشود من الغاضبين الذين فقدوا في الغالب وعيهم وقدرتهم على التفكير المنطقي، يتحركون بطريقة آلية نحو السفارات ومواقع المصالح الغربية ليقوموا باحراق الأعلام وصور رؤساء الدول ثم الهجوم على السفارة نفسها. نفس المشهد تكرر على أثر انتشار فيلم quot;براءة المسلمينquot; المسيء للرسول محمد صلى الله عليه وسلم.

ما هي ردة فعلي ككاتب ومعلق على الشؤون الراهنة على الفيلم؟ قمت بمشاهدته أولاً ووجدته سخيفاً ومعلباً بنفس الصور التي تروج لها قوى اليمين المتطرف في أوروبا المعادية للإسلام وهي أن نبي الإسلام كان رجل منحرف جنسياً، محب للنساء والغلمان ويعشق سفك الدماء. لذا من الطبيعي تماماً أن يغضب المسلمون على هذه القباحة العنصرية كما سيغضب اليهود مثلاً في حال انتاج عمل فني أو دعائي معادي للسامية.

مروان البلوشي

هذا الغصب الذي تحول كالعادة إلى موجة عالمية كاسحة كانت قمتها الهجوم البربري على القنصلية الأمريكية وقتل السفير كريس ستيفنز، يخبرنا أن المسلمين عموماً والعرب خصوصاً لم يدخلوا بعد دخولاً سلمياً فاعلاً في المجتمع الكوني المتداخل الذي هو عالمنا اليوم. تريدون ان تعرفوا يا سادتي أسباب هذا الغضب الدموي والذي يخدم تشويه صورة الإسلام أكثر من الفيلم ذاته؟

1-شعوبنا العربية التي لم تتعود بعد على التفريق بين الحكومة والمجتمع، لأن الحكومة تتحكم في كل حياتنا، لذا فعندما يخرج للعلن الفيلم الأميركي المسيئ أو الرسوم الدانمركية، تعتقد شعوبنا أن الحكومتين الأمريكية أو الدانمركية quot;سمحتاquot; لهذا الشيء أن يحصل.

2-تأملوا الخطاب الديني الإسلامي العربي تجاه المسلمين من طوائف أخرى (سنة وشيعة مثلاً) وهو يؤكد على quot;الحصرية الدينيةquot; وتأملوا مضامين هذا الخطاب تجاه غير المسلمين الذين يعيشون في البلدان الإسلامية، وهو يبعث الحياة في قيمة quot;الإستعلاءquot; ويجعلها مؤسسة متكاملة.

3-حالة الإقصاء السياسي التي ترافق الديني، حيث الرغبة باحتكار حكم البلاد والعباد وعملية صنع القرار واستباحة الموارد تدعمها مؤسسات فاقدة للشرعية أو هي في أفضل الحالات مؤسسات غير مفعلة. معادلة الإقصاء السياسي عندنا بسيطة للغاية : العنف العاري ضد المعارضين والمختلفين وجعل العنف وسيلة حياة وأسلوب للتعامل وحل المشاكل على كل المستويات.

نحن اليوم نعيش في خنادق حفرناها بأنفسنا بين خطوط حرب مختلفة تمثل حالاتنا السلوكية والعقلية والمذهبية والدينية التي هي نتاج غياب منظومة فقهية ذات نسق فكري واضح لا ينحني أمام متطلبات السياسة العربية القذرة والمؤقتة. منظومة فقهية تأسس لتقبل الإختلاف وتقبل العيش المشترك والهويات المتنوعة التي تشكل نسيجنا العربي المشرقي.
لكن هناك ضوءاً في الخارطة الإسلامية غير العربية، تأملوا ردود الفعل في تركيا على الفيلم المسيء، نعم كان هناك مظاهرات لكن لم يكن هناك تعبئة امنية أو حرائق أو قتل أو رفع لأعلام تنظيم القاعدة. طبعاً قد يقول قائل أن تركيا لم تعرف في تاريخها أبداً تنظيمات إسلامية مسلحة، وأن الإسلام في تركيا لا يعرف السلفية كممارسة وفكر وأن التصوف ممتزج بشدة بالمذهب الحنفي (الذي يعتمد على الرأي) السائد هناك.

على الجانب الآخر نستطيع أن نحكي عن قدرة الأتراك على اختيار حكوماتهم كل أربع سنوات مما يجعلهم يفهمون الحدود بين المجتمع والحكومة، في المقابل فإن السياسيين الأتراك سيحسبون ألف حساب لمشاعر وتوجهات المجتمع في أي وقت، حيث أنهم الموكلون تعاقداً بتمثيل تطلعات الأمة التركية في الداخل والخارج. كذلك فإن المجتمع المدني النشيط والمزدهر يوفر لهم فرص لا تتوفر في الأرض العربية للإحتجاج بشكل عقلاني و سلمي. الأهم من هذا حسب رأيي الشخصي هو أن المسلمين الأتراك استطاعوا بنجاح تبني التحديث الديمقراطي والعولمة الأقتصادية في الثلاثين سنة الأخيرة، مما جعلهم يعون ان الدفاع عن الإسلام في هذا العالم الحديث لن يتم إلا عبر وسائل حديثة ومتحضرة.
سؤال المرحلة القادمة من الربيع العربي سيدور حول تبني العرب قيم الحداثة والعولمة وتطوير منظوماتهم النفسية والاجتماعية والفقهية والسياسية.