حسن عبد ربه المصري

لم تشهد مصر معركة تركت خلفها من التوابع الإجتماعية والسياسية القاتلة ، كما تركت معركة الإستفتاء علي الدستور .. لأن الشقاق والإنقسام والجروح التي خلقتها في نسيج المجتمع بكل شرائحة ونخبة وأبناؤه وفئاته المتنوعة ، لم تعرف مصر أي منها في تاريخها الحديث .. الأكثر من ذلك أن تيار الإسلام السياسي بوجهيه الإخواني والسلفي الذي أقنع نفسه أنه فاز بالغنيمة التى خطط لها ، عليه ان يعمل بكل طاقته من أجل الإستقرار والأمن والإنتقال الفوري إلي مرحلة الإنتاج و لتحقيق مقاصد مشروع النهضة ولترتيب مؤسسات الدولة quot; وفق الصالح العام quot; وليس إستجابة لمطلب الدعاوي الايديولوجية التي تفرق جموع الشعب بين مؤمنين وكفار ..
نتوقع أن يتعرض هذا العمل إلي نوع من quot; النضال السياسي quot; سعياً وراء تحقيق هذه الأهداف التي أصبحت فاتورتها واجبة السداد بعد مرور ستة أشهر علي تولي الرئيس محمد مرسي منصب رئيس الجمهورية !! ..
لأن إقرار الدستور ، بغض النظر عن النسبة التى وافقت عليه من بين الكتلة التصويتية وبالقياس لجموع الشعب المصري ، لم يفتح صفحة جديدة في حائط الصد المجتمعي المقاوم لهيمنة تحالف هذا التيار علي كافة مقدرات الدولة ، بعد ان عاش المجتمع ndash; مرغماً - في ظل إنقسام ديني بشع الصورة شارك فيه شيوخ أجلاء حولوا العديد من مساجد مدن مصر الكبري إلي ساحات ليس فيها من الدين قدر ما فيها من ترويج لمفاهيم سياسية مغلوطة ..
ولأن إقرار الدستور ، لم يُحقق للغالبية العظمي من أنباء الشعب الذين ساندوا ثورة يناير 2011 وحولوها ndash; بعد ثلاثة أيام فقط - من ثورة شبابية تستخدم تقنيات ثورة المعلومات ، إلي ثورة شعبية تحتضن وتحمي وتقدم الشهداء ، ما كانوا يصبون إليه من حرية تعبير وعدالة اجتماعية وحقوق موثقة في مجالات التعليم والعلاج والإسكان ..
ولأن إقرار الدستور ، لم يُوقف سيل الفتاوي التي quot; تُكفر quot; المخالفين في الرأي و quot; تُحاصر quot; غير الموالين و quot; تَنتصر quot; للتشدد و quot; تَتوعد quot; الذين قالوا quot; لا quot; وتُنذر quot; المعارضة quot; وتُحيل quot; للقضاء quot; من لا يرضي الموالون عنهم و تصف المتظاهرون بكل quot; نقيصة quot; وتخطط لإصدار مجموعة من quot; القوانين quot; الجديدة التي من شأنها أن تفرض العقاب علي كل من خرج عن الصف وفكر في مواصلة quot; الإعتراض quot; ..
إن لم يتحقق العمل أو النضال السياسي من أجل إحقاق الحق ، فهي الفوضي بعينها !! ..
بصراحة شديدة أقول ..
لم تترك معركة الإستفتاء علي الدستور نسيج المجتمع المصري منهكاً فقط ، بل جعلته معرضاً للكثير من الأمراض المميتة التى ستهاجمه بلا رحمة وربما تفتك به !! إذ لم تنتبه مؤسسة الرئاسة أنها حتى هذه اللحظة لم تنشأ اي جسور عملية مع رجل الشارع ، ولم تقترب من تحقيق أماله في غد أشمل استقراراً واعمق أمناً وأكثر إنتاجاً وأصدق وعداً ..
مؤسسة الرئاسة ومعها جماعة الإخوان المسلمين في مأزق شديد الخطورة ..
لقد انتظرت الغالبية الشعبية من التيار السياسي الإسلامي ، الذي فاز بكل انتخابات جرت في مصر منذ منتصف العام الماضي ، الكثير .. ولكنه خيب آمالها بعد أن حظي بالأغلبية في الإنتخابات التشريعية ، وفاز بمنصب رئيس الجمهورية ، وحظي الدستور الذي سطروه بموافقة جعلته يمر مجتمعياً ndash; وليس توافقيا ndash; إلي رحابة التفعيل ..
- خيبة أملها ستتعاظم إذا إستمر هذا التيار عاجزاً عن عرض رؤيته لأبعاد مشاكل الوطن والمواطن المتأزمة ، وظل متحجراً في تقديم مقترحات عملية وواقعية تؤدي لحلها في الغد القريب ..
- خيبة أملها تراكمت طبقات فوق طبقات منذ أن نزل تيار الإسلام السياسي بأحزابه إلي الساحة السياسية عارضاً quot; افكار سياسية وإقتصادية مبهمة quot; وحلول تحمل في طياتها شعارت إسلامية غير قابلة للتنفيذ وبرامج دعائية ما أنزل الله بها من سلطان ..
- خيبة أملها ستنفجر أذ لم يتعايش المجتمع مع خطة ذات جدول زمني متسارع لوقف الإنفلات الأمني ، وإذ لم يُحس المواطن البسيط بأن عجلة الإنتاج والتشغيل بدأت تدور لصالحه ولإستيعاب العاطلين من أبناؤه ولتوفير ضمانات مستقبل كريم لعائلته ، وإذ لم تعمل الحكومة علي إنقاذ ميزانية الدولة مما تعاني منه تدهور يكاد يقودها للإفلاس ، وأذ لم تشمله برعايتها مبادرات المصالحة الوطينة التى تمطرها السماء فوق رأسه بلا نقطاع ..
الغالبية العظمي من أبناء الشعب ، حتي من بقي منهم مؤيداً للتيار السياسي الإسلامي ، تريد أن تضع رئيس الجمهورية في مقام quot; رجل الدولة quot; ذو الرؤية الثاقبة بعد أن صبروا عليه كثيراً وهو يرتدي ثوب الداعية .. وتريد أن تضعه في مقام القادر علي لم الشمل ومنع الصدام مع قوي سياسية ومجتمعية كثيرة معارضة ، بعد أن عانت من معظم قرارته المتسرعة الصادمة التي أثرت بشكل مباشر علي أمورها المعيشية .. وتريد ان تسمع منه أنه يُدرك بشكل واقعي أبعاد الإنسداد السياسي والإجتماعي والإقتصادي الذي يأخذ بخناقها ، وأنه يملك القدرة القيادية علي دعوة كافة الأطراف التي تمثل الطيف المصري للتوافق حول رؤية مستقبلية لمواجهة الموقف المتردي وفق جدول زمني يُقنع المواطن بأنه يشارك بجهده ومهاراته وأرآئه في إبعاد الدولة المصرية عن مصير لا يعلمه إلا الله ..
وأن لم يتحقق هذا ، فهي الفوضي بعينها ..
بصراحة أشد أقول ، ليس بيد أحد غير رئيس الجمهورية الإقدام الفوري علي هذه الخطوات ..
عليه أذا كان يؤمن أنه رئيس كل المصرين ، أن يعمل ما في وسعة لنيل دعمهم ..
الكل يطالب الإعلام المصري العام والخاص ، أن يكون بناءً وأن يسمو فوق الصغائر ..
ونحن معهم ونضم صوتنا إلي صوتهم ..
بداية نقول للمهيمنين الجدد علي مجلس الشوري و إعلام الدولة المرئي والمسموع وصحفها القومية بالإضافة إلي قنواتهم الفضائية الخاصة وصحفهم الحزبية ، كونوا قدوة في فرض نموذج الإعلام البناء الذي يسمو فوق الصغائر ..
- وبدلا ان تواصل أدواتكم هذه ترديد وعود التغيير التى لم يَعد يصدقها الغالبية ، إعترفوا من خلالها بأن كافة الشعارات التى طرحتموها منذ إستفتاء مارس 2011 الشهير بغزوة الصناديق مثل الإسلام هو الحل و مشروع النهضة و ضرورة التمكين .. الخ .. كانت شعارات عمومية وأجندات غير واقعية وأفكار غير مؤسسة علي حقائق مُعاشة ..
- وعليكم مراجعة الأسباب الحقيقية التى أدت إلي تراجع مؤشرات قناعة المواطنين بها علي مدار العشرونشهراً الأخيرة ( مارس 2011 ndash; ديسمبر 2012 ) والتى تنحصر في عدم القدرة علي الانجاز ..
- وعليكم أن يتوقفوا فوراً عن التمسح بإرث الثلاثون الماضية ، لأن استيعابكم سياسياً وإجتماعياً لهذه التركة ، كان يفرض عليكم وعلي منابركم الإعلامية الإعداد الكامل لكيفية التعامل مع مفرداتها وأنتم تخططون لتصدر المشهد السياسي ..
اطالب مع غير بهذه المراجعة الموضوعية ، لأن تجربة التيار السياسي الاسلامي قصيرة الأجل في مجلس الشعب ، تدل علي هذا الخواء الذي ساهم في اطالة الفترة الإنتقالية أو الفوضوية إن شئنا الدقة ؟؟ ..
ألم يتقاعسوا عن تبني مشاريع تساعدهم علي الوفاء بوعودهم الإقتصادية وتعهداتهم بترجمة شعارات الثورة إلي واقع ملموس ، وتعالج الفجوة الفاحشة بين أقصي الأجور وأدناها ، وترتب لتقنين عادل لتوزيع الثروة ، وإرساء مرتكزات العدالة الاجتماعية ..
في نفس الوقت لم يبادروا لوضع ضوابط وخطط متدرجة لتطهير مؤسسات الدولة من الفساد والمفسدين ..
ألم يتاجروا بخلافاتهم المتتالية مع حكومة الدكتور كمال الجنزوري ، بسبب قصور رؤيتهم السياسية والإجتماعية من ناحية وسعيهم الدؤوب لتمكين كودرهم من مفاصل الدولة التى ظنوا أنهم ورثورها من ناحية ثانية وانكبابهم علي تمهيد الطريق بشتي السبل لفوز مرشح حزب الحرية والعدالة في نهاية جولة الإنتخابات الرئاسية الثاينة بالمنصب الرئاسي من ناحية ثالثة ..
أن لم تكن هذه هي الفوضي بعينها !! ..
فبماذا نسمي عدم قدرة الرئيس المدني المنتخب علي الوفاء بوعود المائة يوم التالية لتوليه السلطة .. كما وعد في برنامجه الإنتخابي ؟؟ ..
كلنا نعلم أن جماعة الإخوان المسلمين وحزبها الحرية والعدالة ، أرجعوا عدم القدرة علي الوفاء بهذا الوعد إلي سببين .. اولهما المؤامرات الخارجية التى تحاك ضد الرئيس سواء بتمويل من دول عربية أو إقليمية بتأييد من قوي غربية ، وثانيهما الأموال الطائلة التى يُنفقها الفلول بتأييد من مؤسسة القضاء !! ولم يعترف أي من قادتها ولا كوادرها بالتقصير أو سوء الإدارة أو عدم توافر الرؤية المستقبلية المرتبطة بالواقع ..
وبنفس النسق تواصل حديثهما ndash; أي الجماعة وحزبها - عن الحاجة للإستقرار السياسي لكي يتمكن الرئيس من تفعيل برنامجه الإنتخابي ، وفي المقابل أبدت العديد من طوائف الشعب ونخبه السياسية قدر هائل من الإندهاش الممزوج بالإستنكار حيال هذا الحديث في ظل إمساك الرئيس وحكومته بالسلطتين التنفيذية والتشريعية بحكم الإعلان الدستوري المكمل .. وتساءلوا بصوت مدوي ماذا يحول دون فرض سياسة أمنية صارمة ؟؟ وماذا يمنع من البدء فوراً في إرساء متطلبات الإستقرار السياسي ؟؟ ولماذا يتأخرون في إقرار خطة إقتصادية فورية قصيرة الأجل ، لحين ما يستقروا علي ملامح خطة متوسطة وطويلة المدي ..
دعونا نقول ..
أرقام الناخبون الذين صوتوا بنعم أو بلا للدستور !! لم تعد ذات أهمية ، فالأمر المؤكد أن النسبة الأكبر هي التى قالت نعم ..
يَهمنا في هذا المقام ، أن نتساءل هل حان وقت زوال مبررات هذه الفوضي ؟؟ بعد أن أوكل لمجلس الشوري بشكل مؤقت القيام بدور تشريعي .. ومن ثم بدأت خارطة الوضع المستقر ، تتبلور .. وهل من الممكن أن تبدي كلتا السلطتين إستعداد أكبر لتحمل مسئولية وقف إستنزاف هذه الفوضي لأحتياطيات الشعب المصري المادية والمعنوية ؟؟ ..
وهل كلتاهما علي إستعداد للقيام بدورها التنفيذي والتشريعي لوقف تداعي التراكمات العشوائية التى أثقلت كاهل الوطن والمواطن إلي درجة الغليان ، قبل أن تنفجر الحمم ويتعاظم حجم التصادم بين القوي الشعبية والسياسية بما يسمح بمزيد من الفوضي ؟؟ ..
هذا هو المأمول ، وإن غداً لناظره قريب ..