تحولت مسألة تشكيل الأحزاب السياسية إلى موضة في بلادنا الخضراء، حيث سعى كل من جمع حوله حفنة من أصدقائه، وتدارس وإياهم في مقهى شؤون البلاد وأثار إعجابهم، إلى تأسيس حزب سياسي يحدوه الأمل أن يكون في يوم ما حاكما لهذه البلاد سائسا لشؤون العباد، وزعيما لا يشق له غبار في خياله الخصب. حتى وصل بنا الأمر إلى التخمة وبات الأمر مثارا للسخرية والتندر بعد أن بلغنا رقما قياسيا في عدد الأحزاب.
وبعد مرور أكثر من سنتين ونصف على هذه الموجة التي تزامنت مع انهيار نظام بن علي، لم تتمكن هذه الكيانات الحزبية من التواجد الفعلي على الميدان للإقناع ببرامجها وتوجهاتها، ولم تقم في أغلبها بتأطير النزر القليل من منخرطيها والمتعاطفين معها. وفسحت المجال في الأحياء الفقيرة على وجه الخصوص للتيار التكفيري ليهيمن على العقول ويقبض على الأنفس ويلقي بها في أتون المحارق والمعارك الوهمية سواء في تونس أو خارجها، تساعده في ذلك ميليشيات على ارتباط بحزبين حاكمين من هذه الترويكا التي ابتلانا بها رب العزة جل وعلا، تدعي زورا وبهتانا حمايتها للثورة ساهمت في حرمان عدد من الأحزاب quot;ذات الوزن الجماهيريquot; من فتح مقرات لها في أكثر من جهة من جهات البلاد.
وعلى ما يبدو فإن الأحزاب التي توحدت مع غيرها أو انخرطت في جبهات هي الأقدر على الصمود وعلى بناء نفسها خلال الأعوام القادمة. أما من آثر quot;الفردانيةquot; وأصر على الزعامة الوهمية فلن يجني سوى الخيبات وسيكون مآله الإندثار أو الإنكفاء على نفسه والتقوقع ومراقبة المشهد السياسي كمتفرج على صانعي القرار. فالزعامة لا تتشكل بمجرد تكوين حزب سياسي ونيل التأشيرة المتعلقة به، بل تفترض في الشخص الموهبة والكاريزما اللتين يتم صقلهما بالتكوين السياسي الجيد، أي يجب على أحزابنا السياسية أن تتحول إلى مدارس لتخريج الزعامات الذين تفتقر إليهم ساحتنا السياسية بعد جيل quot;العظماءquot; الذين قادوا معركة الإستقلال أواسط القرن الماضي وساهموا في بناء الدولة الحديثة من أمثال الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف وفرحات حشاد وعبد العزيز الثعالبي والمنجي سليم والحبيب ثامر وعلي البلهوان وغيرهم.
لقد دعا نائب رئيس حركة النهضة الشيخ عبد الفتاح مورو في تصريح مثير صدر في وقت سابق رئيس الحكومة التونسية السيد علي العريض، الذي ينتمي وإياه إلى ذات الحزب، إلى التدريب والتكوين لفترة تمتد إلى خمس سنوات حتى يصبح قادرا على تسيير البلاد، واعتبر الشيخ مورو في هذا التصريح أيضا أن حركة النهضة غير قادرة في الوقت الحاضر على الحكم بصورة منفردة. وتؤكد هذه الدعوة من الشيخ الجليل أن كوادر الحركة تفتقر للتكوين السياسي الجيد الذي يؤهلها لحكم البلاد، وأن شبابها لم يخضع لعملية تأهيل يتلقى خلالها أبجديات العمل السياسي رغم أنها باتت الحزب الأكبر في تونس بعد حل التجمع الدستوري الديمقراطي إثر الإطاحة بنظام بن علي. كما أن عملية تأطير القواعد وإشباعهم بمبادئ الفكر السياسي لا وجود له في قواميس الحركة quot;الإسلاميةquot; التونسية التي تقود البلاد. وإذا كان هذا حال quot;أكبرquot; الأحزاب السياسية على الساحة التونسية في الوقت الراهن فما بالك بالبقية خاصة تلك التي نشأت حديثا وتفتقر للموارد المالية.
إن تصريح الشيخ مورو إن دل على شيء، فإنه يدل على عدم توفر حزب سياسي بالمعنى الحقيقي للكلمة في تونس. وأن الحديث عن مؤسسات تتخذ القرار داخل حركة النهضة ماهو إلا كلام أجوف بلا معنى. فما قيمة هذه المؤسسات إذا كان مسيروها يفتقدون إلى الكفاءة اللازمة لممارسة النشاط السياسي، شأنهم في ذلك شأن أغلب السياسيين في تونس؟ وكيف يمكن لحزب لا يهتم يتعليم quot;منظوريهquot; أبجديات العمل السياسي والحزبي أن يسير دولة بكل ما في الأمر من تعقيدات؟
فأحزابنا ليست quot;أحزاب حكمquot; بالمعنى المألوف للكلمة، وإنما مجرد أطر للأحلام الزعاماتية لقيادييها ومؤسسيها الذين لم يصمد في كثير من الأحزاب سواهم، بعد أن انفض الجميع من حولهم وقد أدركوا أن الأهداف المعلنة عند التأسيس ماهي إلا شعارات براقة ووهمية في أغلبها ولا تتوفر الآليات لدى هذه الأحزاب لتطبيقها واقعيا. وما ينطبق على تونس بإمكانه أن يشمل جل بلاد العرب من المحيط إلى الخليج.