في هذه الأيام المنيلة بستين ألف نيلة من خريف العمر،تجمعني مجالس عديدة وممتدة مع زميلي العزيز الدكتور جرجيس كوليزادة،فكلانا بنفس العمر تقريبا،تجمعنا مشتركات عديدة،أهمها حنينا المشترك الى الماضي،وهو حنين مدمر يثير الشجن،لأن ما عشناه في الماضي وأقصد به تحديدا عصر الستينات والسبعينات،عندما نقارنه بما نعيشه اليوم نشعر كلانا بالتغرب عن هذا المجتمع الذي فقد كل معاني الأصالة والروعة،وإفتقد بهاء ونقاء تلك الأيام الخوالي.

فحينها كانت النفوس صافية،والقلوب متحابة،والعلاقات الإجتماعية في قمة روعتها،والتسامح والمحبة هي السائدة في العلاقات بين أبناء الوطن من أصحاب الديانات والطوائف والمذاهب المختلفة،على عكس ما نراه اليوم من الذبح والقتل والتشريد والتهجير عقابا على جريمة لم نقترفها نحن، بل أجدادنا الأولون عندما إختلفوا على الخليفة أو الإمام،فإمتدت آثارها إلينا وأصبح الكثيرون من أبناء العراق علىquot; آثار أجدادههم مقتدونquot;حتى أصبحنا نحن أحفاد أولئك المتخاصمين،مسخرة أمام العالمين لإفتعالنا حروبا عبثية على خلاف دار قبل ألف وأربعمائة سنة أو يزيد.

في مثل هذه الأيام المليئة بالسخام والسواد، بات من الصعب علينا نحن أبناء الجيل السابق أن نتلائم مع هذا الوضع المزري المخزي الذي يعيشه بلدنا.ولطالما حاولنا أنا وجرجيس أن ننفس عن غضبنا مما نراه ونلقاه في هذا العصر عبر كتاباتنا،وكذلك من خلال إستعادة بعض ذكريات ذلك الزمن الجميل بمجالسنا.

نستذكر ساسة ذلك العصر،من الروساء الأجلاء والمحترمين الشرفاء الذين كانوا يتفانون في خدمة بلدهم وشعبهم، ويحكمون بالعدل والقسطاس المبين.والوزراء يأتون ويمضون دون أن يمد أحدهم أيديه الى المال العام، أو يستغل منصبه للإثراء على حساب قوت المواطنين،كانوا زهادا نظافا طاهري الأيدي.لم يقتلوا أحدا، ولم يؤذوا أحدا، ولم يهينوا كرامة أي مواطن.

واليوم أصبحنا نسمع بوزير داخلية يثقب أجساد سجنائه بالدريل الكهربائي،ورئيس وزراء شيعي لا يتردد من إعلان الحرب الطائفية ضد السنة،ويقتل الناس في عهده على الهوية في الشوارع،وآخر يزبد ويرعد مهددا بالحرب العنصرية ضد الأكراد،ناسيا أو متناسيا أهوال كل تلك الحروب العبثية التي خاضتها الدولة ضدهم طوال ثمانية عقود،ناهيك عن التقارير والأخبار المفجعة والمتكررة التي تعسر الهضم وتتوارد عن السرقات والنهيبة التي تحدث بالبلد، حتى أصبح العراقيون يترحمون على الإستعمار الإنكليزي ومن لقبوه بفرهود العراق.

إفتح أي موقع بالإنترنيت أو أية صحيفة تنشر تقاريردولية عن الفساد بالعالم، ستجد إسم العراق ساطعا فيها،ويتقدم على عشرات الدول التي أبتليت بهذه الظاهرة المقيتة، رغم أن بعض العراقيين يفتخرون دائما بأنهم بناة الحضارة الإنسانية، وأنهم أول من إخترعوا الكتابة،وهي أعظم علوم التاريخ على الإطلاق.

نبهني زميل قبل فترة الى وجود تسجيل فيديو صادفه بأحد المواقع الالكترونية وأرسله الي،وهو يصور أحد الخطباء يجلس حوله حشد من المسلمين منصتين الى خطبته بخشوع، وهو يتحدث فيها عن زمن صحابة الرسول. ويروي هذا الخطيب للمسلمين الجالسين أمامه بخشوع قصة أحد أعظم الصحابة المقربين الى الرسول الكريم،شارحا لهم أنه كان مثلي الجنس،وأنه مفعول به؟!!!..وأخذته العزة بالإثم أن يشرح هذا الخطيب لسامعيه المسلمين الجالسين أمامه لتلقي العلم وبالتفصيل معنى الميول الجنسية المثلية، شارحا كيفية إتمام العملية، وكأنه يعلق على فلم إباحي أنتج في ستوديوهات لاري فلينت ملك الإباحة الأمريكي. هذا الوصف الخليع داخل مسجد أو حسينية أو حتى في المجالس الخاصة، كان سعدي الحلي المطرب العراقي الشهير يأنف من التطرق إليه بكل تأكيد، ولكن الحقد الطائفي الأعمى دفع هذا الخطيب الى قول ما قاله وأمام المسلمين في جميع أنحاء العالم، لأن ذلك المقطع الفيديوي قد نشر في مواقع ألكترونية متاحة للجميع.

وبالمناسبة لا أدري هل هناك حقيقة فيما وسم به هذا المطرب الشعبي الرائع من صفات لا أعتقد شخصيا أنها كانت فيه،فالعراقيون من عادتهم أن يطلقوا الألقاب على الآخرين من دون أن تكون فيهم صفاتا تتناسب مع تلك الألقاب، مثل أن يلقبوا الكفيف بالبصير، وهذه العادة إنتقلت الى الأكراد أيضا،فهم يسمون سيارة من نوع المازدا بـ(الحمار النافق) لمجرد أنها لا تباع بسرعة في سوق المعارض،كما وصفوا سيارة (فولكس واغنالبرازيلي) القديمة بأنها (إمرأة مترملة) لأن لا أحد يلتفت إليها هذه الأيام؟.

وأعتقد بأن العراقيين لو صرفوا جهودهم للبحث عن حقيقنة إتهام سعدي الحلي بذلك الوصف البشع، سيكونون قد أدوا خدمة لهذا المطرب الرائع وبرئوه من تهمة شنيعة ألصقت به، بدلا من الغوص في تاريخهم القديم الذي يملئه الحقد والكراهية، بل القذارة بعينها.

[email protected]