لعل من نافلة القول، ان الدراسات التي تناولت المجتمع الكردي لاسيما التحولات التي شهدها هذا المجتمع هي دراسات نادرة، وبالتالي هي لاتكاد تخرج عن السياق العام في العراق والمنطقة الذي لا يهتم كثيرا بالظاهرة الاجتماعية، وانما يتم غالبا التركيز على الظاهرتين السياسية والاقتصادية.

وبالفعل فان ما كتب عن المجتمع الكردي بتنوعاته والحراك الاجتماعي الهائل الذي شهده بعد عام 2003 يكاد يقارب الصفر.
والمقالة هذه لا تدعي انها دراسة اجتماعية بقدر ما هي دعوة لجميع الباحثين الى الانتباه نحو مراعاة الظاهرة الاجتماعية في تناول المشهد العراقي بصورة عامة، مثلما هي دعوة للباحثين من الاخوة الاكراد لايلاء قدر كبير من الاهتمام بهذه الظاهرة داخل المجتمع الكردي.

لقد كان المؤتمر الذي عقد في اربيل حول تقنيات التعليم في الجامعات فرصة مناسبة لي لاخذ تصورات عامة عن طبيعة المجتمع الكردي، وادعي القول إنها اقرب الى المشاهدات الشخصية لكن بنظرة الباحث.
واول هذه المشاهدات صعود متنامي للطبقة الوسطى في اربيل، وهي صعود يماثل الى حد ما، ما شهده العراق وبغداد تقريبا في فترة السبعينيات، ويمكن للمرء هنا ملاحظة تنامي هذا الدور في الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بسهولة كبيرة.

ان تنامي دور الطبقة الوسطى في اقليم كردستان لاشك انه سيلقى اثارا ايجابية على طبيعة الانماط الاجتماعية ويدفعها باتجاه الحداثة ويجعلها فاعلا ملتزما ويخلق منها قوة عامة ساندة للمجتمع في عملية تطوره وتكوين هوية مدنية غير مندمجة بالبنى التقليدية السائدة.

اما المشاهدة الاخرى، فهي الحركة الادبية والعلمية، فاربيل تحولت الى خلية نحل من الفعاليات الادبية والعلمية، ومن يزور المكتبات في اربيل يصيبه الدهشة من حجم الانتاج المعرفي في المجالات المختلفة، مع تنامي عدد المراكز البحثية والجامعات العامة والخاصة، فضلا عن انتشار الفعاليات الادبية والفنية المتعددة الجوانب وهو ما يعكس وجود بنية مادية ومعنوية على الارض موجودة فعلا ومؤهلة للنمو على نحو متزايد ومتعاظم.

المشاهدة الثالثة،اعادة هيكلة اربيل على نمط المدن الحديثة، إذ يجري تحويل هذه المدينة الى مدينة حديثة جاذبة للاستثمارات يساعدها في ذلك فضاء واسع، واراض بكر، والحركة العمرانية تشهد تصاعدا ملحوظا يحسب بالاشهر لا بالسنين، وإذا ما استمرت هذه الحركة سنجد انفسنا امام مدينة مقاربة للمدن الحديثة في دول الخليج العربي او غيرها من مدن جنوب شرق اسيا، لكن يصاحب العملية تلك سيادة نمط المجتمع الاستهلاكي الذي بدء يتسلل شيئا فشيئا داخل المجتمع الاربيلي على نحو واضح.

المشاهدة الرابعة نمو طبقة من الاغنياء الجدد، إذ تشهد اربيل تمركز راس المال بيد عدد معين من الاغنياء، وبعضها يمتلك اصولا قديمة وبعضها الاخر وهم الاكثرية من الاغنياء الجدد.
المشاهدة الخامسة، ازدياد القبول للاخر وخاصة العرب، إذ يشهد المجتمع الكردي مزيدا من الانفتاح والتسامح والقبول بالعيش المشترك، وطبقة الشباب لاتملك ارثا من احداث وعقد الماضي، وحتى اولئلك الذين انخرطوا في فترة طويلة في الصراع المسلح لم تعد هذه المسالة اولوية في التعامل مع الاخر، ويزداد هذا الادراك مع مشاهدة مئات من اللافتات باللغة العربية، وهو امر كان يعد من المحرمات في سنوات قليلة ماضية.
ولاشك ان بناء شبكة من المصالح الاقتصادية كان لها دور في ذلك مع تنامي الوجود العربيquot; بحدود (75) الف عربي يسكن اربيل واطرافها بحسب مصادر عدة quot;، إذ تساعد المصالح الاقتصادية على ازاحة وتحييد الخلافات السياسية والاجتماعية الى حد كبير.

المشاهدة السادسة، لا احد يستطيع نكران وجود الفساد في اربيل، لكن نمط الفساد في اقليم كردستان يختلف كليا عن نمط الفساد في الجانب العربي، ففي الجانب الكردي يوجد ما استطيع تسميته بالفساد ذات النمط ( الشرق - الاسيوي)، بمعنى وجود فساد لكن اموال الفساد لا تهرب الى الخارج بل تستثمر داخل حدود الاقليم، وهو الفساد الايجابي على الرغم من ان الفساد في كل حال هو حالة مذمومة، على العكس من الفساد لدى الجانب العربي من العراق وهو يتبع الانموذج الافريقي الذي ياخذ الاموال ويهربها الى الخارج، إذ ان اغلب الاموال التي تاخذ نتيجة عملية الفساد في الجانب العربي يتم تهريبها، ولذا نجد فسادا في اقليم كردستان لكن توجد تنمية لانه يتم تدوير الاموال داخل الاقليم، بينما الجانب العربي يوجد الفساد ومعه يولد الخراب لان الاموال تهرب خارجا وهو ما نطلق عليه الفساد السلبي.

ان هذه المشاهدات هي محاولة رصد لبعض مما يجري في اقليم كردستان، وهي تبقى محاولة قصدها الدعوة الى فهم التجربة العراقية، وتجربة اقليم كردستان وطبيعة التحولات المجتمعية ودراستها بعيدا عن المواقف والاحكام الفكرية المسبقة.

يبقى ان اسجل مشاهدتي الاخيرة، واقول اني لمست طيبة الانسان الكردي وعفويته في التعامل، والحب في المساعدة، والرغبة في تقديم العون للضيف، وحسن التعامل والخلق الكريم، وفي اي مكان تزوره لن تجد إلا الترحاب والقلب المحب الصادق والابتسامة، تلك مشاهداتي ولكم آرئكم ساداتي الافاضل.

[email protected]