تكشف استقالة البابا بنديكتوس السادس عشر عمق الازمة التي تعيشها الكنيسة الكاثوليكية. الازمة ازمة كنيسة وليست ازمة بابا تقدّم به العمر فقرر الاستسلام امام المشاكل المعقدة التي وجد نفسه امامها.
أنها ازمة على كلّ المستويات اكتشف البابا المستقيل أنه عاجز عن التعاطي معها او المباشرة في معالجتها. فضّل بكل بساطة الانسحاب لعلّ وعسى يستطيع خليفته ايجاد مخارج تعيد الحياة الى الكنسية والى الفاتيكان دوره بعد تراكم كلّ الفضائح دفعة واحدة.
ما هي طبيعة الفضائح التي جعلت بنديكتوس السادس عشر ينكفئ؟ اللائحة طويلة. معروف اين تبدأ وليس معروفا اين تنتهي او هل من فضيحة تنتهي عندها؟ اما بالنسبة الى طبيعة تلك الفضائح التي لا يستطيع رجل دين كاثوليكي متزمت من اصول المانية يعاني مشاكل صحيّة تحملّها، فهي متنوعة جدا. انها من النوع الذي تعاني منه دول عادية وحتى دول من العالم الثالث وليس دولة اسمها دولة الفاتيكان يفترض ان تكون نموذجا. اكثر من ذلك، انّ مهمة هذه الدولة في الاساس نشر الفضيلة في العالم واعطاء دروس في الاخلاق والتدين والاحسان فضلا بالطبع عن نشر تعاليم الديانة المسيحية التي في اساسها والتواضع والابتعاد عن المادة وكلّ القيم المرتبطة بها.
في السنوات الاخيرة، تبيّن أن الفاتيكان مجرّد دولة تعاني من كلّ امراض الدول الفاشلة. هناك قبل كلّ شيء صراعات داخلية، خصوصا بعدما تبيّن ان الحبر الاعظم، الذي تقدّم به العمر، لم يحسن اختيار مستشاريه ومساعديه الذين كانوا مسؤولين عن ملفات على علاقة بالكنيسة او بالسياسة الخارجية للفاتيكان الذي لديه عدد كبير من السفراء في مختلف انحاء العالم. على العكس من ذلك، تمسّك البابا بعدد من هؤلاء المستشارين والمساعدين على الرغم من اخطاء كثيرة ارتكبوها في مجالات كثيرة.
كانت هناك فضائح مالية عبقت اروقة الفاتيكان بروائحها وكانت هناك عمليات تبييض اموال عبر quot;مصرف الفاتيكانquot; ادت الى فتح السلطات الايطالية المختصة تحقيقا فيها. على سبيل المثال وليس الحصر، حصل في العام 2010، بعد ايام من عودة بنديكتوس السادس عشر من زيارة لبريطانيا قابل خلالها الملكة اليزابت وسعى الى اعادة مدّ الجسور مع الكنيسة الانغليكانية، ان تحرّك المدعي العام في روما وحجز ثلاثين مليون دولار من اموال quot;مصرف الفاتيكانquot; بعد اتهامه بتبييض الاموال.
لم تكن تلك المرّة الاولى التي يكون فيها quot;مصرف الفاتيكانquot; موضع شبهات وتحقيقات، الاّ أنّ الجديد في الامر أنّ حجز مبلغ الثلاثين مليون دولار، جاء في وقت زاد فيه الكلام عن فضائح مالية ورشاوى ارتبط بها مساعدون للبابا ومسؤولون يتولون ملفات في غاية الاهمية والدقّة!
يمكن تعداد عشرات الفضائح التي عانت منها الكنيسة وتكتّمت عليها لفترات طويلة، بعضها مرتبط بالجنس ومنها التعدي على قصر، ان في الولايات المتحدة او ايرلندا او اوستراليا... وبعضها الاخر مرتبط بالخادم الشخصي للبابا الذي سرق وثائق مهمّة خاصة بالحبر الاعظم. نشرت الوثائق لاحقا في كتاب عما يدور داخل اسوار الفاتيكان.
وهناك تصرّفات مشينة لرجل دين مكسيكي اسمه مارسيال ماسييل ديغولادو توفى في العام 2008. كان ديغولادو، مؤسس quot;الوية المسيحquot; في المكسيك على علاقة وثيقة بالفاتيكان ايام البابا يوحنا بولس الثاني. وتبيّن بعد وفاته ان الويته التي كانت تدعو الى الفضيلة والتمسك بتعاليم الكنيسة الكاثوليكية شيء وما كان يمارسه يوميا على ارض الواقع شيء آخر. فالرجل متهم بجرائم اغتصاب راهبات وبأن لديه عددا لا بأس به من الاولاد غير الشرعيين اضافة الى ارتباطه بعصابات تهريب المخدرات. واثار ذلك ردود فعل غاضبة في المكسيك اثناء زيارة بنديكتوس لها قبل سنة تقريبا، خصوصا أنّ البابا فشل الذهاب الى النهاية في كشف حقيقة ما قام به مؤسس quot;الوية المسيحquot; وادانة ممارساته تمهيدا لمواساة ضحاياه الكثر.
كان ملفتا أنّ الصحف ووسائل الاعلام العالمية تناولت، في مناسبة استقالة بنديكتوس السادس عشر، آلاف الفضائح المرتبطة بالفاتيكان. لكنّها لم تتطرق الى الظروف التي ادّت الى انتخاب المطران بشارة الراعي بطريركا للموارنة في لبنان.
تجاهلت وسائل الاعلام والصحف الكبرى الاسئلة الكثيرة المتعلقة بوصول الراعي الى كرسي البطريركية ثم تعيينه كاردينالا في وقت يتخذ رأس الكنيسة المارونية مواقف سياسية أقلّ ما يمكن أن توصف به أنها مثيرة للجدل ولا تخدم المسيحيين لا في لبنان ولا في سوريا. هذا على الاقلّ ما يقوله بطريقة او بأخرى عدد كبير من المسيحيين وحتى اللبنانيين.
من عادة البطاركة الموارنة التزام الحذر وتفادي الكلام الكثير، على طريقة بعض السياسيين. من عادتهم ايضا، منذ استقلال لبنان، تفادي الذهاب الى دمشق في وقت هناك آلاف اللبنانيين من كلّ الطوائف والمناطق في السجون السورية. اكثر من ذلك، من عادة البطاركة الموارنة النأي بالنفس عن كلّ ما يمكن أن يثير الحساسيات، بما في ذلك التصفيق في قدّاس دمشقي لدى ورود اسم الرئيس السوري بشّار الاسد الذي يواجه ثورة شعبية يشارك فيها معظم السنّة الذين يشكلون ثلاثة ارباع سكّان سوريا.
كيف يمكن أن يوافق الفاتيكان على تشجيع حلف الاقليّات في منطقة تمرّ بمرحلة انتقالية؟
كان الاتيان بالراعي بطريركا للموارنة في لبنان دليلا على فقدان الفاتيكان البوصلة. كان ذلك دليلا على أن هناك عجزا عن استيعاب ما يدور في الشرق الاوسط وطبيعة المخاطر المحدقة بالمسيحيين العرب. كان هناك ضياع فاتيكاني بلغ حدّ التغاضي عن مرافقة لبنانيين مشبوهين، من ناحية طريقة تكوين ثرواتهم الضخمة، للبطريرك الماروني لدى زيارته الفاتيكان في مناسبة دخوله مجمع الكرادلة. والسؤال الذي تثيره المناسبة مرتبط بدور هؤلاء في مرحلة ما قبل انتخاب الراعي بطريركا والظروف التي سمحت لهم بأن يكونوا في الفاتيكان وبأن تكون لديهم كلمة مسموعة فيه؟
في كلّ الاحوال، لن يكون حديث عن هذه الفضيحة اللبنانية التي تبدو مرشّحة للغرق في مستنقع الفضائح الاخرى التي يعاني منها الفاتيكان. ولكن من يدري؟ سيأتي اليوم الذي تلقى فيه هذه الفضيحة الاهميّة التي تستحقها. وقد لا يكون هذا اليوم بعيدا.