بعد عشرة أعوام على المجزرة العراقية المروعة التي أعقبت الإحتلال العسكري الأمريكي للعراق و تدميره طوليا وعرضيا في التاسع من نيسان عام 2003، وبعد مئات الآلاف من الضحايا، وبعد مئات بل آلاف المليارات المنهوبة، وفي الطريق لتدشين الحرب الأهلية الطائفية المؤدية لتقسيم و تجزئة و تشظية و إختفاء العراق الذي عرفناه على مدى ما يقارب القرن من الزمان، تحدث الحاكم المدني الأمريكي بول برايمر و أقر و أعترف بأخطاء السياسة الأمريكية في الشرق القديم وفي العراق تحديدا، و أعترف بذنبه وذنب إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش الإبن في تدمير العراق و تسليمه لقمة سائغة وعلى طبق من ذهب للنظام الإيراني الذي كان المنتصر الأول و الأكبر من حملة إسقاط النظام السابق و الذي في الحصيلة و التقويم النهائي للأمور ماكان ليسقط أبدا لولا التدخل العسكري الأجنبي المباشر، و أعتقد أن تجربة الثورة السورية برغم قوتها و زخمها وشجاعة الثوار السوريين وقوة شكيمتهم التي لايوجد ما كان يناظرها في العمل السياسي العراقي المعارض تعطينا فكرة واضحة عن قوة وحصانة الأنظمة الفاشية التي تتحصن بجهازها العسكري و الأمني وهي على إستعداد لذبح الملايين من أجل إستمرارها و بقائها، فالنظام العراقي الذي كان بقيادة صدام حسين وجماعته و بجيشه المليوني و تنظيمه الحزبي و الإستخباري ورغم الضربات الموجعة والهائلة التي وجهت إليه خلال حرب تحرير الكويت ( عاصفة الصحراء ) عام 1991 ظل متماسكا وصلبا رغم قساوة المقاطعة و الحصار الدولي الذي هشم العراق بالكامل و أجهز على بنيته الإجتماعية و الفكرية وغير معالمه بالكامل، فالمعارضة العراقية ورغم إنفتاح المجتمع الدولي عليها وتواصل بعض الأنظمة العربية معها بعد حرب الكويت وخروج صدام حسين عن النظام العربي كانت مشتتة وضعيفة للغاية بفعل سنوات القمع الفاشية الطويلة، وكانت الأحزاب الطائفية الدينية العراقية هي المتواجدة رغم هشاشتها وهي التي إرتبطت وجوديا وفكريا وولائا بالنظام الإيراني الذي و منذ عام 1979 دشن برنامجا ذكيا وطموحا للهيمنة على العراق من خلال تلكم الأحزاب التي كانت بمثابة الطليعة الإيرانية المتقدمة في العمق العراقي، فالمشروع السياسي و الفكري الإيراني كان يعتمد أساسا على عاملين الأول، إسقاط الأنظمة السياسية القائمة و إقامة البديل الإسلامي ( الإيراني ) وفقا لنظرية الولي الفقيه الجامع للشرائط، وقد كانت من ضمن أهم أسباب إطالة أمد الحرب العراقية الإيرانية لمدة ثمانية أعوام عجاف هو الشرط الإيراني بمحاكمة المعتدي ( نظام صدام ) و إقامة الجمهورية الإسلامية في العراق وهو الحلم الممنوع إقليميا ووطنيا أيضا، وقد حفلت صفحات الحر ب العراقية/ الإيرانية بمواقف إيرانية جذرية في الإصرار على إحتلال العراق كما حصل في عمليات شرق البصرة الأولى ليلة 13/14 يوليو (تموز ) عام 1982 حينما إنتقلت العمليات العسكرية للعمق العراقي وكان الهدف إحتلال البصرة وضمها لجمهورية الولي الفقيه وقد لعبت الأحزاب الطائفية الحاكمة حاليا في العراق دورا مركزيا في تلكم الأحداث كجماعة المجلس الأعلى ( تنظيم آل الحكيم ) و ( حزب الدعوة ) و جماعة التوابين و المجاهدين وغيرهم من الذين خاضوا مع قوات الحرس الثوري المواجهات في القرنة وأهوار العمارة ثم في كردستان ثم في الفاو، دون أن نتجاهل الأدوار التخريبية لتلكم الأحزاب نفسها في تدبير الأعمال الإرهابية في لبنان و العراق و الكويت و البحرين و السعودية ولصالح المشروع الإيراني وبعض تلكم الأعمال كان إنقلابيا وخطيرا كعمليات خطف الطائرات المدنية وكمحاولة إغتيال امير الكويت الراحل الشيخ جابر الأحمد الصباح في 25 مايو 1985!! ومن المعلوم قانونيا بأن الأفعال الإرهابية لاتسقط بالتقادم! ومع ذلك فقد دشن الإحتلال الأمريكي للعراق باكورة أنشطته بالتعاون مع قادة ذلك الحزب الذي تهدم و إنتهى تماما بعد قبول إيران لقرار وقف الحرب مع العراق صيف عام 1988 و تشردت عناصره في ملاجيء الدنيا وفي عوالم المنافي بعد أن لفظتهم إيران ذاتها، إلا من إرتضى منهم أن يكون عبدا وذليلا في إيران بعد أن ذاب في هويتها، فقادة الحزب كنوري المالكي مثلا إنعزل في حسينية الصدر في الحجيرة بريف دمشق مفضلا العمل مع المخابرات السورية، وإبراهيم الجعفري لجأ لبريطانيا وعاش في لندن دون ممارسة الطب بل تحول ليكون حملدار و دليل لحملات الحج و الزيارة، أما علي زندي ( الأديب ) فقد بقي في إيران ، فلما جاء الأمريكان لينغمسوا في الملف العراقي وجدوا أمامهم وهم في لندن أو دمشق تلكم الجماعات المنتشرة في المنافي فجمعوا حطامها و نفخوا من روحهم في رميمها و تكفلت مناورات السيد فرانك ريتشاردوني ثم السفير خليل زادة وحقائبه المليئة بالدولارات وأدت لعقد مؤتمر فندق المتروبول في لندن وتكوين البذرة الأولى للقيادة التي ستحكم العراق بعد الإحتلال في أواخر عام 2002 وكان الصوت الأعلى و الأوضح بعد الأحزاب الكردية هي الجماعات الطائفية القديمة المرتبطة بالمشروع الإيراني الذي تهاوى و اوشك على الإندثار قبل أن يعيده الأمريكان للحياة؟؟ فهل كانت القضية مسألة غباء أمريكي أم أنه الخبث بأرقى صوره و أشكاله؟ يصعب علينا تصديق حكاية الغباء و السذاجة وعدم المعرفة !! فمن معيشتنا بالغرب و معرفتنا بطريقة و آليات التفكير يمكننا القول بكل ثقة بأنه ليس في الأمر ذرة من الغباء أبدا، فالغرب لايمزح في مسائل مصيرية وهنالك مخططات موضوعة ومرسومة منذ عقود طويلة يتم تنفيذها وفق مراحل متفاوتة و بأساليب مختلفة ولاشيء يأتي بالصدفة أبدا، و الأمريكان حينما فعلوا فعلتهم في العراق كانوا يعون تماما الطريق الذي يسيرون به وإلا فليس من المعقول أن لاتعرف دوائر الرصد الأمريكية مثلا من أن حزب الدعوة هو حزب قريب لإيران؟ أو أن تنظيم الحكيم ( المحلس الأعلى ) هو كذلك؟ كما أنه لا أحد يصدق إن الرفيق بريمر لايعلم بأن ثلثي أعضاء مجلس الحكم والزعامات التي حوله هم من قريبون من إيران. لقد كانت مؤامرة حقيرة لتدمير العراق سار في خطتها الأمريكان وقادوا كل حلقاتها وهم اليوم يبكون رياءً على الأطلال، لقد تمت خيانة الديمقراطية المزعومة بأبشع صور التآمر و الغدر و النذالة... ليس في الأمر غباء بل خبث تاريخي يشيب لهوله الولدان...
وهاهو شعب العراق يحصد الريح بعد أن زرع الأمريكان العاصفة..

[email protected]