لاأعرف ماهو شعور رئيس السودان فى الاسبوع الماضى بينما يطلب قائد الطائرة التى تقله اذنا بالهبوط فى أرض كانت كيانا واحدا لايحتاج حاكمه عند التجوال فيه برا وجوا وبحرا الى اذن، لكنى أشك أن الجلود السميكة لهذه النوعية من الحكام يمكن أن تتأثر بمثل هذه المواقف وهم من خطط ونفذ ثم احتفل بذبح الخراف في شوارع العاصمة المثلثة ابتهاجا ( بتوحيد القبلة ) أى أن السودان أصبحت دينا واحدا وبالطبع عرقا واحدا، وما يثير العقول هو ان هناك كثيرون يطلقون على ما جرى فى السودان قضية انفصال الجنوب، ولا ندرى من أصل لهذه التسمية ومدى اتساقها مع تطور المجريات التاريخية للأحداث، ونطمع أن تفيد هذه المداخلة فى استبيان مدى دقة تسمية أو توصيف هذه الأحداث فى كل المنطقة مع التركيز على السودان كنموذج قياسى صالح للتطبيق العاجل والآجل على كل المنطقة دون استثناء ونؤكد على دون استثناء حتى لا تختبئ منا منطقة هنا أو هناك ونظن أنها مجتمع متناغم مستقر هادئ والحقيقة أن النار تحت الرماد وفوقها طبقة من الهشيم المبلل بمشتقات النفط سريعة الاشتعال، وحتى لا نلقى الامور على عواهنها وهل ما حدث فى السودان على سبيل المثال هو إنفصام أم إنفصال باعتبار القضية خطيرة ونتائجها لن تظل بأى حال محصورة فى نطاقها الجغرافى، فتعبير انفصال سبقه بالطبع تعبير الانفصاليين الذى أطلق على زعماء هذا الحراك، وهو تعبير يوصم به ويرهب به(مع بقية مرادفاته) كل من يحاول الوقوف فى وجه طلم وتغول أغلبية اثنبة أو دينية ليعرض فكر مخالف أو مغاير للسائد المستقر، والسائد المستقر فى هذه المنطقة هو ثقافة قهر الاعراق واستعبادها باسم العرق والدين، وتعبير الانفصاليين يوصم به ويرهب به أيضا كل من يحاول الاعتراض على فرض الهيمنة الثقافية أو الدينية على غيره من الأعراق، لالسبب سوى أنهم أقلية، وفى السودان أطلق النعت على الكوادر الاولى التى أسست لهذا الحراك منذ نصف قرن أو يزيد، وتعبير انفصال فى هذه المنطقة يسبب فوبيا تاريخية يتداعى عند ذكره مشهد الحدث المأساوى الشهير انفصال سوريا عن مصر وانهيار حلم عبد الناصر فى جمهورية عروبية من المحيط الى الخليج، وبسرعة تنطبق اوصاف معروف الدواليبى ومأمون الكزبرى وأديب الشيشكلى على جون قرنق وسالفا كير وياسر عرمان، ويتناسى الجميع أن عملية الانفصال فى أى بلد عندما تحدث فهى المرحلة الاجرائية النهائية لتدشين واقع معاش إستحال معه (دوام استمرار العشرة) بين الأعراق بعد فترة (انفصام) طويلة يطلق عليها البعض تعايش، وهو التعبير المهذب لعملية العيش (على مضض)، العيش بين أطراف متنمرين بعضهم لبعض مضطرين للانتظار حتى تحين اللحظة، لحظة الانفجار وقد حانت فى الصومال وحانت فى السودان وحانت فى فلسطين،وهى على وشك فى العراق ولبنان والمغرب واليمن وليبيا وسوريا، وهى قادمة فى مصر والجزائر والسودان مرة ثانية والسودان مرة ثالثة، وهى نائمة مؤقتا فى البقية الباقية بفضل فوائض ثروة مؤقتة ايضا، وهى آتية لامحالة بينما الجميع يتشاغلون بإخفاء رؤوسهم فى الكثبان الناعمة، لكن العواصف العاتية القادمة ستكتسح الرمال وتنكشف الرؤوس وساعتها لامناص من مواجهة المشهد الذى حاول الجميع انكاره والتستر عليه بالباطل والكذب على الشعوب عند كل أزمة، واعتبار مايحدث سحابات صيف بيضاء عابرة، وعلى الفور يطفو على السطح التعبير المضاد وهو الوحدة، ويتم تعديل ديكورات المشهد البائس حتى تعبر السحابة، لكن السحابات تجمعت وأصبح لونها داكنا وبدأت البروق والرعود تصم الآذان، ولا زال الكذبة المضللون مصرون على أنها سحابات صيف بيضاء عابرة، وإمعانا فى الكذب يصطنع المضللون تعبيرات الدهشة على وجوههم وكانها مفاجأه، مع ان نصف قرن من المقدمات الدامية لا يبدو فترة قصيرة، نعم نصف قرن من محاولات التوفيق بين الرؤوس والعقول للانصياع لمبدأ العيش المشترك وقبول الآخر المختلف، نصف قرن جرت فيها أنهار دماء وتآكلت فيها كل الحلول بمرور الزمن واحدا تلو الآخر ولم يتبقى سوى حل وحيد وخيار أوحد وهو الانقصال، ويدعى الكاذبون وحتى اللحظة أنه من الممكن تفاديه ولم يقل أحد كيف؟ كيف بعد نصف قرن من الانفصام والدماء!؟.

بين السنة والشيعة والاكراد فى العراق وبين العرب والاقباط والنوبيين قى مصر وبين العرب والافارقة فى السودان ومالى وتشاد وموريتانيا وبين الجنوب والشمال فى اليمن وبين السنة والشيعة فى البحرين وبين العرب والامازيج فى الجزائر والمغرب وبين الموارنه والدروز والشيعة والسنه فى لبنان وأخيرا وليس آخرا بين فتح وحماس فى فلسطين، ويمارس الناس كعادتهم النواح على اللبن المسكوب والبحث عن الاسباب وكأنها مجهولة، مع انها معلومة أشخاصا وأموالا ودولا ورعاه، وأنا عشت فى السودان ورأيت أيام كان فيها الجنيه السودانى يساوى دولارين، ورأيت أيام أن كان قيها الشباب يجوبون شوارع الخرطوم فى مسيرات الكريسماس السنوية مرددين الاهازيج الدينية ورافعين الصلبان فى أجواء إحتفالية ترتسم فيها البهجة على كل الوجوه، حيث لم تكن نظم العزل والفرز والتعصب والكراهية والاستعلاء العرقى والدينى قد نمت فى هذا المجتمع المسالم المثقف الواعى، ورأيت وسمعت فى النادى المصرى وغيره من الأندية فى العاصمة المثلثة أنماط من الثقافات السياسية والدينية والعرقية، أحباش وعفر وأريتريين وزنوج وعرب وأقباط حيث لم تكن بذرة الانفصام التى زرعوها قد نمت، وها قد توحشت وأصبحت غابة سنط متغولة تنفث الاشواك فى كل ارض السودان وكل أرض العرب، بينما لم يستطع الرعاة الممولون أن يفعلوا شيئا للسودان الجريح، تركوه يتشظى متفرجين كما سيتركوا غيره، وسيظل السودانيون يدفعون الثمن كل صباح من أرضهم ودمائهم التى باتت على الميديا فرجة للعالم بإسم الدين وهو منها براء، فالاسلام الفطرى الهادئ لم يدخل السودان بجلد النساء الفقيرات بالسوط، بل دخل بمتصوفين أجلاء سمحى الوجوه لم تتلطخ أياديهم أبدا بدماء شركائهم فى الوطن، ولازالت طرائقم فى وجدان السودانيين الأصلاء الذين لم ينحازوا للتمويل النفطى المشبوه المدمر وأظنهم أغلبية حتى اليوم، ومع تدمير نظام العيش المتناغم بين الأعراق والثقافات فى العراق ومصر والسودان ولبنان والجزائر واليمن ها هى سوريا وقد أصبحت قبلة لموجات الجهاديين المدفوع أتعابهم مقدما لفتح ميدان بديل للميدان الافغانى وهاهى سيناء المصرية وقد اصبحت مرتعا لفصائل مرتزقة وبالطبع سياتى اليوم الذى تأتى فيه قوات الناتو لمقاومة الارهاب فى المنطقة وحماية أمن اسرائيل وتأمين قناة السويس وتدفع الشعوب ثمنا باهظا الشعوب التى جرها الارهابيون لمصير بائس وأيام شديدة السواد فى ظل ظروف دولية مهيئة تماما تجعل من المنطقة كلها المحطة التالية المرشحة بقوة لبدء السيناريو المنظم بدقة ونصحو ذات صباح على الخبر اليقين (علوجهم على مشارف المدينة )،ترى لمن تدق الاجراس إنها تدق للعراقيين ولقد أعلنها الأكراد صريحة دون مواربة وهم على وشك نوال مناهم،ويتمناها الشيعة والسنه اليوم قبل الغد، وتدق للمصريين وهاهم الأقباط والنوبيين وقد فاض بهم الكيل ويملكون صكوكا للجغرافيا والتاريخ غير قابلة للطعن، وتدق للبنانيين حيث الاحلام المستترة للموارنة والدروز والشيعة وغيرهم، وتدق لكل المجتمعات التى انفصمت فيها الاعراق عن بعضها وعن مجتمعاتها، انفصمت ثقافيا واجتماعيا منذ عقود طويلة وصنعت الدماء المسالة خط اللاعودة الاحمر القانى، الأعراق التى سبق وتداخلت وعاشت معا وصنعت نهضة فتية لو قدر لها أن تنمو لكانت هذه المنطقة من العالم هى القوة الاولى بلا منازع، فالثقافة والتنوع والحضارة والارض الخصبة والمياه العذبة والبشر والموارد كلها مقومات التقدم والنهضة، لكن لا مفر من العود لسماع مرثية النحيب على اللبن الابيض النقى الذى سكب فى مستنقعات الأسن والتخلف وعاد بالمنطقة كلها لعصور سحيقة كنا نعتقد أننا تجاوزناها،عصور الاسترقاق والجلد وتغليف النساء وبينما تدق الاجراس اليوم فى كنائس جوبا ابتهاجا بالحرية التى نالها الجنوبيون وأعتقوا من الاسترقاق وأمسيات الجلد بالسياط وقطع العراقيب فى حلقات المشاهدة السادية فى باحات المساجد وأقسام الدرك، بينما تدق أجراس أخرى فى مناطق كثيرة أجراس تحذر من غضب الاعراق المقهورة التى يظن البعض أن لاحول لها ولا قوة.

غضب الاعراق الشريرة التى لم يقل لنا المنظرون لماذا لم يتوافق العرب معهم حتى بعد أن توحدوا معهم فى العقيدة لماذا لم يتوافق العرب مع الفرس ولا مع الاكراد ولا مع اليهود ولا مع النوبيين ولا مع الامازيج ولا مع الزنوج ولا مع الاقباط ولا مع الاتراك، انها الأعراق التى بسببها ستظهر قريبا علوج كثيرة على مشارف مدن كثيرة.