حين يدور الحديث حول العري في الفن، تحضر في ذاكرتي مسرحيةquot; دون جيوفانيquot; أو quot;دون جوانquot;، كما قدمها مخرج بولندي شاب quot; غريغور جاوزيناquot; على مسارح مدينة أمستردام في نسخة سابقة من مهرجان هولندا للفنون، فتيات يتعرين كاملا على خشبة المسرح، ومشاهد ممارسة جنسية متخيلة تؤديها فتاة بلباس نوم حريري. لكن عنصر الاثارة الجنسية كان شبه غائب، حتى لدي أنا، القادم من الشرق العربي والمحمل بظمأ تاريخي لجسد المرأة. كانت الإثارة الجنسية تتلاشى أمام الحضور الطاغي لللعناصر الفنية وفي مقدمتها المؤثر الموسيقي المستمد من عمل موزارت.

هذه المسرحية جاءت في سياق مختلف عن السياق الذي ظهرت فيه النسخة الكلاسيكية المسرحية الأسباني تيسرو ده مولينا في القرن السابع عشر، لتكون علامة احتجاج وتمرد على التزمت الكاثوليكي والصرامة الأخلاقية التي خلفت فسادا أخلاقيا وصم تلك المرحلة. أما العرض الذي أتحدث عنه فقد جاء في سياق ما بعد الحداثة الأوربية، ليكون معبراً عن حالة الخواء الروحي للفرد المعاصر.

مسرحية دون جيفاني ورغم احتوائها لكثير من مشاهد التعري او الايحاء بالممارسة الجنسية هي أقل بكثير من حيث الاثارة الجنسية ان نحن قارناها بنصوص من التراث العربي والاسلامي،اذ انها تتناول ثيمة إنسانية عامة منفتحة على العلاقة بين الرجل والمرأة وبين الانسان وذاته وموقعه في المجتمع ورؤيته للآخر،، بعيدا عن الأكليشيهات الأيديولوجية لاهوتية كانت أو وضعية. ماذا لو حاول مخرج عربي تقديم المسرحية على غرار المخرج البولندي في بلد عربي؟ لا بد ّ أنه سيتعرض الى التفسيق من قبل التيار الديني المتشدد ومن قبل سدنة البنية التقليدية المحافظة.النجاح الوحيد الذي يمكن ان يحققه العرض هو اقبال فئة من الباحثين عن الاثارة على غرار اعمال مسرحية وسينمائية تدعي الاسهام في توسعة افق الحريات الفردية لكنها تطمح الى الشهرة والانتشار السريع.

يضع البعض مظاهر الاعتراض والاحتجاج بالتعري التي شهدتها بعض البلدان العربية في سياق المناخ الثوري الذي تعيشه المنطقة منذ عامين، وربما يذهب البعض الى المقارنة بمظاهر الاحتجاج التي شهدتها اوربا في ستينات وسبعينات القرن الماضي. وهي مقارنة تبدو لي غير واقعية. فقد كان الاحتجاج بالتعري لأن الحريات الفردية، وفي صميمها الحريات الجنسية، كانت مطلبا أساسيا في الحركات الثورية التي عمت الغرب مع ثورة الطلاب في العام 1968، اما في انتفاضات quot;الربيع العربيquot; فقد كان هذا المطلب هامشيا في أجندات التيار الثوري الذي ضم قوى اسلامية وليبرالية ويسارية.

ان عنصر الكبت الجنسي والاجتماعي قد حال في المجتمعات المحافظة دون أن ينال المفهوم العام للجنس طابعا اجتماعيا مقبولا. ووفقا لهذا فان جوهر القضية ذو صلة بافق التحرر الجنسي في المجتمعات ذاتها، خلافا للتقييم اللاموضوعي الذي يحاول ربط مبادرات الاحتجاج بالتعري بالعامل الخارجي وهو تقييم غالبا ما يكون صادرا عن قوى ترى الى الغرب باعتباره كيانا موحدا ولاتفرق بين الغرب الفني والثقافي والمنظمات التحررية من جهة والغرب السياسي الذي يميل في علاقته مع عالمنا العربي إلى التحالف مع القوى السياسية الأكثر ثقلا بغض النظر عن منظورها للمواضيع الاجتماعية بما فيها موضوع الحريات الجنسية.

لقد خلقت مبادرات التعري في البلدان العربية سواء كانت مفتعلة أو مدروسة، استعراضية أو هادفة، حيوية وتفاعلية في مساءلة التابوهات الاجتماعية بحيث يمكن القول إن تأثيرها يفوق تأثير أي كتاب تنويري يتناول قمع الجسد في الثقافة العربية. فقد أسست هذ المحاولات الفردية في كسر تابو العري لنقاش تفاعلي، شارك فيه طيف واسع من مختلف شرائح المجتمع وهو ما عجز عنه الخطاب العقلاني التنويري الذي لم يضع ضمن استراتيجيته كسر التابوهات وخلخلتها بقدر ما حرص على النقد والاصلاح التدريجي.

شاعر واعلامي عراقي

مدير القسم العربي من قناة زوم ان تي في