شهدت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (بحسب تسمية دوائر غربية للبلاد العربية) عديد المتغيرات في الآونة الأخيرة دلت على مدى الترابط الوثيق بين دول هذا الفضاء الجغراسياسي الناطق بلغة الضاد. فما يحدث في سوريا يؤثر في منطقة الخليج، التي تؤثر بدورها على مصر وبلاد المغرب ومن ذلك تونس، فتبدو هذه المجموعة من الدول الواقعة بين المحيط الأطلسي وخليج العرب وكأنها قطع quot;دومينوquot; تتهاوى تباعا وبسرعة قياسية.

فما حدث في سوريا من صمود لنظام بشار الأسد أمام التحالف الغربي ووكلائه في المنطقة دفع بالإدارة الأمريكية، بحسب عديد الخبراء، إلى إعادة حساباتها بعد إجراء عملية تقويمية واسعة كان من أهم نتائجها، تحجيم الدور القطري ومنح نفوذ أوسع للملكة العربية السعودية لتدير خيوط اللعبة في ملفات المنطقة وهي التي تراجع دورها في السنوات الأخيرة لصالح قطر التي أصبحت، بالوكالة عن واشنطن، لاعبا أساسيا في لبنان وفلسطين، وفي مصر وتونس وليبيا، وحتى العراق وإن بدرجة أقل بالنظر إلى النفوذ الإيراني في بلاد الرافدين.
ومن أهم نتائج إعادة ترتيب الأوضاع الذي شرعت فيه الإدارة الأمريكية، التغيير الحاصل في قطر، حيث يؤكد عديد الخبراء والمحللين بأن تنازل الأمير حمد بن خليفة آل ثاني إلى نجله الأمير تميم عن العرش، الهدف منه بالأساس هو صرف الحكم في الدوحة إلى الإهتمام بالشأن الداخلي، وإعادة ترتيب البيت خاصة وأن البلاد مقبلة على تنظيم عديد التظاهرات الهامة، التي هي بحاجة لدماء شبابية جديدة قادرة على مجابهة التحديات، وستساهم هذه المواعيد والمشاريع الكبرى التي خطط لها سلفا في مزيد إشعاع هذه الإمارة الخليجية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس خلال العقدين الأخيرين. فمهما حاول البعض الحديث عن أن سياسة قطر لن تتغير سواء مع حمد بن خليفة آل ثاني أو مع نجله الأمير تميم فإن الحقيقة هي بخلاف ذلك، بحسب تأكيدات أغلب المراقبين، إذ سينحصر الدور القطري في مقابل نفوذ أكبر للرياض في ملفات المنطقة.
كما أن من أهم نتائج هذه quot;الجراحةquot; التي شرعت فيها الإدارة البيضاوية، فوز أحمد عاصي الجربا المقرب من الرياض برئاسة الإئتلاف السوري المعارض، على حساب مصطفى الصباغ رجل الأعمال المدعوم من الدوحة، وهو ما يعني بحسب أغلب الخبراء، ليس فقط نفوذا أكبر للمملكة في الملف السوري، ولكن أيضا تغييرا في السياسات، رغبت في تحقيقه الإدارة الأمريكية من خلال تغيير اللاعبين، خاصة بعد تدخل حزب الله في القصير وغيره من المدن السورية ونجاحه في قلب موازين القوى لصالح النظام في دمشق، وبعد تراجع ألق الثورة السورية بفعل ما يسمى بـquot;جبهة النصرةquot; التي جعلت أكثر من طرف إقليمي ودولي يتراجع عن دعم الثورة السورية خوفا من أن يكون البديل لنظام بشار هو هؤلاء التكفيريين.
ومن نتائج هذا التغيير في السياسة الأمريكية أيضا، هو سقوط حكم الإخوان في مصر بعد رفع الغطاء عنه من الإدارة البيضاوية التي كانت وإلى وقت غير بعيد من أشد الداعمين له. فقد اعتبر وزير الخارجية جون كيري، وحين تمت مساءلته من الكونغرس بمناسبة تعيينه في منصبه على رأس الديبلوماسية الأمريكية، بأن الرئيس مرسي والإخوان هم خير ضامن لمصالح أمريكا وإسرائيل. و يؤكد هذا quot;السلوك البيضاويquot; مقولة أن ليس لأمريكا صديق دائم أو عدو دائم، فهي التي تخلت عن مبارك بعد أن أسدى خدمات لا تحصى وكان رجلها بامتياز في المنطقة فما بالك بالإخوان.
فمسارعة السعودية، ودون تردد، وفي زمن قياسي إلى تهنئة الرئيس المصري الجديد، الذي عينه العسكر، فاتحة الباب على مصراعيه لباقي الأقطار الخليجية للسير على خطاها، ومنحها لتلك المساعدات المالية بمعية الإمارات والكويت بسخاء منقطع النظير، يؤكد بحسب أغلب الخبراء والمحللين هذا الطرح الذي يتحدث عن دور كبير للرياض في ملفات المنطقة خلال المرحلة المقبلة في مقابل انحسار الدور القطري. كما يؤكده موقف التيار السلفي المصري، الذي فاجأ الرأي العام في أرض الكنانة وخارجها. فهذا التيار القريب من السعودية يبدو ضمنيا مؤيدا للتغيير الحاصل في مصر بخلاف ما كان يعتقده البعض، بأن هذا التيار هو من أشد المساندين للإخوان باعتبار المرجعية الإسلامية التي تمثل نقطة التقاء بين التيارين.
أما تونس، وإن أطنب البعض من منطلق رفع المعنويات، في الحديث عن الفوارق بينها وبين مصر، ضاربا عرض الحائط بنقاط التشابه العديدة بين البلدين وبحالة التأثير والتأثر بينهما التي يؤكدها التاريخ وتدعمها الجغرافيا، فإنه من المتوقع أيضا أن تحصل فيها عديد التغييرات نتيجة للسياسات الأمريكية الجديدة في المنطقة، لأن البلاد باختصار ليست حالة معزولة تعيش بمنأى عما يحصل في محيطها الإقليمي والدولي. فمن المتوقع أن تذهب حركة النهضة ونتيجة للضغوط الدولية، أكثر باتجاه التوافق لأنه المخرج الوحيد من الأزمات والذي يجنب البلاد السيناريو المصري الذي هو قاب قوسين أو أدنى ما لم يتحرك عقلاء النهضة ويجنبوا البلاد الكوارث والمصير المجهول.
على الحركة الحاكمة في أرض الخضراء، أن تنصت لآراء المعارضة وخبراء القانون الدستوري بشأن مسودة الدستور فيما يخص الحدود المتعلقة بالحريات وبالفصل 141 المثير للجدل، وكذا الأحكام الإنتقالية التي فرضها المقرر دون حصول التوافق حولها. كما أن الترويكا الحاكمة في بلادنا، مطالبة بتحديد موعد نهائي وغير تقريبي للإنتخابات وأن تنهي هذه المرحلة الإنتقالية في أسرع وقت، وتوفر الظروف الملائمة لانتخابات حرة ونزيهة بإشراف دولي تام، من خلال حل رابطات حماية الثورة التي لن تتمكن المعارضة، إن استمرت هذه الرابطات العنيفة في النشاط، من عقد اجتماعاتها وتنظيم حملاتها الإنتخابية. كما أن الحركة الحاكمة مطالبة بمراجعة التسميات في الإدارة التي قيل أنها تمت على أساس الولاء. وما عدا ذلك فإن السيناريو المصري وارد التحقق في بلادنا، رغم أن معطيات واقعية تشير إلى استيعاب بعض قادة حركة النهضة للدرس المصري وإلى إلمامهم بما يحصل وراء الكواليس، ومن ذلك رئيس الحكومة السيد علي العريض الذي بادر إلى زيارة الرياض مؤخرا لاستيضاح موقفها فيما يتعلق بالشأن التونسي.