بالتأكيد أن ما جرى للإخوان في مصر بعد 30 يونيو الماضي هو نتيجة لمأزقهم الأصلي المتصل بعدم إدراكهم العميق لبنية الواقع السياسي والاجتماعي في مصر من ناحية، ولرؤية نظم الإدراك التي تعين على فهم تعقيدات العالم الحديث فهما موضوعيا من ناحية أخرى، ومن ثم وقوعهم في العجز عن قراءة ذينك الواقعين قراءة استراتيجية تعين على تأسيس تجربتهم السياسية الوليدة.
بل ان ما بدا من تصرفات الرئيس المعزول محمد مرسي، ومن بضاعة الإخوان الفقيرة أصلا، والتي لا تملك مراكمة حيوية لفكر سياسي استراتيجي في حصيلة تراثهم الفكري ؛ كان أكثر من كاف على أن الإخوان لم يفهموا ــ ولن يفهموا ــ تعقيدات ذينك الواقعين؛ الأمر الذي سيقودهم بالضرورة إلى انسداد تجربتهم السياسية ووصولها إلى جدار صلب انفجرت معه التناقضات على النحو الذي جرى بعد 30 يونيو الماضي.
ونتيجة للزخم الذي تكشف عن تداعيات أحداث ما بعد 30 يونيو، نشطت تأويلات كثيرة انعكست في آراء المحللين السياسيين، ودفعت باتجاه تخريجات معتسفة خلطت بين الكسب السياسي الفقير لجماعة الإخوان، وتجريبها المتخبط في إدارة مؤسسة السلطة في مصر لأكثر من سنة، وبين إطلاق أحكام قيمة مؤد لجة ربطت بين الإسلام والإخوان ضمن علاقة عضوية معتسفة.
والحال أن حقيقة الوضع فيما جرى للإخوان، نتيجة لتأويلهم السياسوي لمفاهيم الإسلام لا يتصل سوى بإدانة ذلك التأويل باعتباره تأويلا سياسويا انكشفت عواره، ومفاعيله الآيدلوجية الضارة بمجرد أول تجريب سياسي للإخوان بعد ثمانين عاما من الهوامش البعيدة عن الواقع الطبيعي لوجودهم في الحياة العامة.
إن ما حدث لتجربة الإخوان المسلمين في السلطة بعد 30 يونيو هو، في جزء منه، كان بمثابة مسار اضراري لكف ذلك الانسداد الذي وصل إليه الإخوان بالسلطة في مصر، خشيةَ الوصول إلى حالات أكثر استعصاء وأخطر تعقيدا في تجميد الحياة العامة والوصول بها إلى انحلال قواعد الحد الأدنى من صيغة العيش العام.
لكن، من ناحية ثانية، كان ما حدث بعد 30 يونيو أيضا دلالة واضحة على الانقسام العميق الذي انخرط فيه المجتمع المصري. وهنا تحديدا سنجد أنفسنا أمام حالة فريدة تعكس لنا باستمرار، وتذكرنا دائما بعجز الجميع في مصر عن رؤية الصراع السياسي حول السلطة ضمن اطار المواطنة؛ ما يعني أن ثمة فرقا كبيرا بين واقع المجتمع المصري الحقيقي الدال على غياب حيثيات الحياة السياسية الحديثة، وبين القيم السياسية الحاكمة للشعب، بوصفه شعبا حقيقيا، والمانعة له من الوصول إلى ذلك الانقسام المجتمعي والآيدلوجي و الإقصائي في الحياة السياسية بمصر.
هذا لا يعني أن الحل النهائي سيكون في ذلك التحول الذي طرأ بعد 30 يونيو فمنذ الانتخابات الرئاسية الأولى بعد الثورة كشفت جميع القوى السياسية المصرية عن مأزقها العاجز عن رؤية الإجماع الوطني كحالة سيادية مستحقة من الجميع، وكسقف ضروري للخروج من اهتزازات ما بعد الثورة.
ذلك أن مجيئ الإخوان إلى السلطة بحد ذاته كان، بصورة من الصور، علامة على فشل القوى الحزبية والسياسية الأخرى عن تأسيس كتلة وازنة للفوز بالانتخابات ضد الإخوان، إذا كان ثمة وعي حقيقي بمعنى الحاجة إلى اجماع وطني سيادي في برامج تلك الأحزاب.
اليوم وبعد 30 يونيو، تجدد ما حدث في 11 فبراير/ شباط 2011م على وقع انقسام الشعب ذاته. لكن جوهر ما حصل بعد 30 يونيو /حزيران هو نصف ثورة ونصف انقلاب، تماما كما حدث في 11/ فبراير / شباط 2011م.
هذا يعني أن الحالة المصرية وما يعتريها من اضطراب وقلق في عدم القدرة على تمثل قضايا بديهية في الاجتماع السياسي الحديث ــ كعجز تلك القوى عن رؤية ضرورة الإجماع الوطني سقفا أدنى للصيغة السيادية الضامنة للخروج من المأزق الوطني الذي وجدت فيه نفسها بعد اهتزازات ثورة 25 يناير ــ إنما تتصل في جذورها بعجز عام في ذهنية المجتمع القائمة على الانقسام، والمقموعة لقرون طويلة بنمط تفكير أوتوقراطي، واستبداد شامل شل قدرة تلك الذهنية على تمثل الواقع السياسي بحسب ضرورات الاجماع والسيادة الوطنيين.
ستعود الأزمة من جديد ؛ بعيدا عن الإخوان هذه المرة، وإنما بسبب تجديد حالة أخرى من الأوتوقراطية المتصلبة في الذهنية العامة للقوى السياسية، سواء أكانت اسلاموية، أم ليبرالية، أم يسارية.
ذلك أن ما لا يمكن ملاحظته بصورة سريعة ومباشرة، فيما هو يحقق مفاعليه في الواقع السياسي المصري، هو : استمرار حالة السيلان والتفاعلات السائبة لمفاعيل ذهنية التخلف وتراكمات الاستبداد لقرون طويلة. وهذه حالة ستستمر طويلا في تحالفها مع إكراهات قوانين الواقع الموضوعي التي تتكشف، في كل مرة، عن قصور القوى السياسية ومدى بعدها عن الاستجابة الموضوعية لتحديات ذلك الواقع الذي تشهده مصر منذ 11/ 2/2011م. [email protected]