تونس بعد مصر، تكشف ضعف حضور الاخوان المسلمين، وتراجع نفوذهم الذي اعتقدنا سعته وعمقه سابقا.

في مصر كان زخم اكثرية الشارع ضدهم، وتسببوا بعد عام واحد فقط بحشود شعبية مناهضة دفعت الجيش ليزيحهم، وفي تونس تراجعوا الى المرتبة الثانية بعد ان ذهبوا بعيدا في المرتبة الاولى سابقاً. صحيح ان القوة العسكرية في مصر كانت عاملاً حاسماً، إلا أن استعراض النفوذ في الشارع قبل تدخل العسكر، لم يكن بصالح الاسلاميين، وفشلوا بتحريك الشارع حراكاً قادراً على صد الحشود المضادة لهم.

هذا لم يجر في الاردن او الامارات، بل في معاقل مهمة للإخوان، في مصر حيث النشأة والشهرة، وتونس حيث التجربة المختلفة التي يقودها الغنوشي. هما الى جانب اخوان سوريا يمثلون القوة الرئيسية للإسلام السياسي السني العربي. وهذا الوضع يدل على تراجع هذا التيار، اذ يتعرض لضربة قوية، ويعبر عن ضعف في النفوذ والوسائل. فالتسنن السياسي في المنطقة العربية يرتد الى اجواء القرن العشرين الخانقة والصعبة، بعد ان اثبت في وقت قياسي، فشلا في الحكم، وادركت القواعد الشعبية هذا الفشل بسرعة. ربما لو استمرت السلطة بيد هذه التيارات سنوات اكثر، لما خرجت من الحكم، قد تكرس وجودها، وتمنع وسائل الاطاحة بها، ولوظّف الجيش لجهته في مصر، وحوّل الانتخابات الى دائرة مغلقة تعيد انتاجه في تونس، كما فعل الاسلام السياسي الشيعي في ايران والعراق.

فإلى جانب النموذج السني العربي في السياسة توجد ثلاث تجارب اخرى، ولم تهزم بعد، بل تستمر. الاسلام السياسي الشيعي، يمثل الوجه الاخر للتدين السياسي، عربيا هناك العراق ولبنان... وفي التجربتين لا تزال القوى الممثلة له قادرة على ان تكون الخيار الرئيسي للشارع، في العراق انتخاب الاحزاب الشيعية الرئيسية الثلاثة، الدعوة والمجلس والتيار الصدري، وفي لبنان زخم حزب الله متواصل عند الشيعة. وخلفهما التجربة الايرانية، وعنوانها ولاية الفقيه.&

نسخة ايران اعتمدت الثيوقراطية بما تعنيه الكلمة من وسائل ومضامين وخطاب، لتصمد حتى الان، واوجدت لنفسها ضدا تعيش عليه، تارة الشيوعية العالمية، واخرى الامبريالية الامريكية، وثالثة التحديات القومية والطائفية والسياسية الشرق اوسطية. التدين السياسي الايراني بعد 35 سنة يداوم الحضور، لأنه كوّن لنفسه دوائر متعددة من الحصانات وظّفت الانتخابات والجيش والثقافة والدين... لحماية ولاية الفقيه. وعندما تحرك الشارع في 2009 قمعه بسرعة كبيرة، لم يتردد ولم يخف، رغم ان الحراك لم يكن ضد النظام، بل لإصلاحات جوهرية فيه.

في العراق، ورغم الفشل المستمر في ادارة الدولة وفساد القوى الدينية الحاكمة، الا أنها باقية، ليس بإمكان احد في الوقت الراهن ازاحتها. الشارع يعيدها في اكثر من ثلاث انتخابات، فالناخب الذي ينتقد فشلها ويشعر بالاسى على اخطائها يعود في كل تجربة الى اختيارها، وقلّما خرج عن الثلاثة الكبار. يحتمي الاسلام السياسي الشيعي في العراق بالشعائر الحسينية، حيث يطرح نفسه راعيا لها ومانعا لأي مساس بها بعد قمعها من قبل نظام صدام حسين، وايضا يعتمد على المخاوف الطائفية الموجودة في الشارع، وبعضها مخاوف واقعية تتشبث بأي شيء لتطمئن، وهناك ايضا تجهيل المجتمع عبر خطاب ديني يُخضع الوعي لشروطه وليس العكس. هو ايضا يدخل في عباءة المرجعية الدينية العليا، التي ساهمت بصعوده ودعمته، واذا ما قامت بانتقاد المالكي والمساهمة بمنع ولايته الثالثة، فان ذلك تم داخل الدائرة، ولم يخرج عنها، موقف ضد طرف لصالح آخر ضمن منظومة التيارات الدينية.

حزب الله اللبناني، وهو جزء من فضاء الطائفيات اللبنانية، لا يتراجع، بل يستمر، يعتمد مرة على الطائفية، واخرى على الحرب مع اسرائيل وثالثة على التهديد الذي يمثله سقوط النظام السوري... بالمحصلة هو جزء من واقع لبناني تتقدم فيه كل القوى الممثلة لمذاهبها ولا منافس خارجي لها.

المثال الاسلامي السياسي الاخر هو الاسلام السياسي السلفي، وهو بنسختين: الحكم المرن في السعودية، فهو حصل على جزء كبير من تطبيق الشريعة ويمارس بعض الوصاية الدينية على المجتمع، دون ان يخوض في العلاقات الخارجية للدولة. اسلوب يشبه الى حد كبير تجارب الحكم الكنسي في اوربا في عصر الانوار، للحكم دعامتان مترابطتان، الملك والكنيسة، لكل منهما مجال متمايز.

النسخة الاخرى لهذا النموذج، السلفية الجهادية كتنظيمات طالبان، القاعدة، وداعش... التي تمثل راهنا، التهديد الاكبر للمنطقة والعالم، ولم تفشل حتى الان في احداث هذا التهديد، نجحت باحتلال مدن كبرى كالموصل والرقة، واقامت خلافتها عليها... كانت قوة هذه النسخة في انها لا تبحث عن ارض واسعة، بل مخابئ امنة وقدرة على التغلغل بين السكان، تعمل بكل ما اوتيت من قوة ونفوذ ودعم مبهم من هنا وهناك، على احداث ثغرات كبيرة داخل البلدان، وتحويلها الى بلدان فاشلة، لتبقى ارضا خصبة لحضورها. واليوم عندما كسبت ارضاً فهي تستخدمها قاعدة انطلاق للقيام بهذه المهمة، رغم ان وجود جغرافية لها، قد يعني انها خسرت اسلوبها في اعتماد المخابئ، وهذا ربما يكون بداية نهاية لها.

النموذج الرابع هو الاسلام السياسي التركي، الاردوغانية، وهي لا تشبه الاخوان المسلمين العرب، رغم دعمها اللا محدود، ومحاولاتها ربط الاسلاميين في مصر وسوريا وتونس وليبيا وحماس فلسطين واخوان العراق بها، انما هي تجربة حققت حتى الان النجاح في بلد علماني، معتمدة على الاقتصاد تارة، وعلى الصراعات الاقليمية تارة، وتارة اخرى على خصومتها مع القوميين الاتراك، ما يعطيها فرصة للتعاطي مع القومية الكردية والحصول على دعمها، باعتبارها اهون الشرور.

التجارب الاربع لا تعني ان الاسلام السياسي لا يتشابه من حيث الجوهر، لكنها تعني ان الظروف والمحطات والتفصيلات مختلفة ومتمايزة، ورغم ان اخفاق اي تجربة سيؤثر على الباقيات، الا انه لا يمثل فشلا للكل، فما حصل في مصر وتونس سينعكس على النماذج الثلاثة الباقية، غير انه لا يؤدي الى سقوطها. ان الاسلام السياسي السني، وتحديدا النسخة العربية، اثبت أنه الاضعف، لكنه ليس الفاشل الوحيد، انما اغلب التيارات الاسلامية فشلت في تقديم نموذج ايجابي، حتى في تركيا، لأنها تتورط في وضع خارجي سينعكس عليها، وبالتفاف مرن على العلمانية سيحبط تركيا المختلفة.

وفي ظل هذا الفشل، تواجه التيارات الاسلامية على اختلاف تجاربها ثلاثة اسئلة رئيسية؛ هل الاسلام صالح للحكم بصيغته الحديثة؟ وهل ان تاريخ الخلافة الطويل، كان حكماً اسلاميا؟ وهل ان الاسلام موجود فعلا، ام ان هناك محاولات فهم تسعى للحكم؟
&