قبل أيام وخلال جلسة مع بعض الأصدقاء الأعزاء، تخللها كعادة العراقيين حديث عن السياسة وذكر بخير للدكتور العبادي، سألني أحد الأصدقاء إن كنت قد قرأت مقال محمد حسنين هيكل الأخير عنه، فأجبته بأنه لا يهمني أن أقرأ ما يكتبه هيكل بالشأن العراقي، لأنني أصلا لا أهتم بما يكتبه بالشأن المصري والدولي عموماً، ولا مصداقية عندي لآراءه وتحليلاته السياسية منذ سنوات طويلة، مع إحترامي له، لما لمسته فيها من سطحية ولاحيادية. وبعد إسترسال الصديق العزيز في طرح وجهة النظر الهيكلية، أخبرنا أنه يتنبأ بأن العبادي سيكون سبباً لحرب أهلية مستقبلية بين الشيعة والسنة والأكراد، لأنه يفرط بمصالح الطرف الأول ويتنازل عنها للطرفين الأخيرين، وحينما إطلعت على المقال لم تفاجأني الرؤية السطحية والتحليل الساذج اللذان لطالما لمستهما لدى الأستاذ هيكل، بقدر ما فاجأتني تفاهة رؤيته وتوصيفه للوضع العراقي، وتحامله غير المبرر على شخص لا تعاديه سوى مافايات الموت والفساد، ولم تمضي عليه بموقع المسؤولية سوى بضعة شهور خطا خلالها خطوات، مهما بدت رمزية وقصيرة، إلا أن سلفه المالكي الذي سكت عنه هيكل لم يخطوا عشرها خلال ثمان سنوات عجاف من حكمه الأسود. فهل يعلم هيكل مثلاً بأن العبادي قد فعل ما لم يجرأ المالكي على فعله لسنوات، وهو أن يتجول وسط أبناء شعبه في مدينة الأعظمية ببساطته البغدادية وبحمايات بسيطة ويشاركهم أفراحهم بالمولد النبوي دون خوف أو وَجل لكونهم من مكون طائفي آخر، لأنه لم ينظر لهم بهذه الصورة المَرَضية، وكذلك فعلوا هم رغم أنهم لم يروا منه الكثير، فما جمعهم وجعل قلوبهم سواجي هي بغداد التنوع والمدنية، الأكبر من كل إنتمائاتهم الطائفية والعرقية.

عموما لطالما كان هيكل بالنسبة لي رمزاً من رموز الخيبة والفشل في الواقع العربي، فهو بنظر الكثيرين مِن أهم مُنظري العالم العربي بالقرن العشرين، خصوصاً أنه عاصَر أغلب رؤساء مصر والعالم العربي، وكان قريباً من الكثيرين منهم، وكانوا بدورهم يستشيرونه بالكثير من الأمور، لذا لا غرابة أن تكون دولنا قد وصلت الى الحالة البائسة التي هي عليها اليوم! قد يكون هيكل منظراً، لكن للهزيمة، بدليل الهزائم التي أوصلنا اليها القادة الذين كان قريباً منهم! والغريب هو أن التجارب التي مَرّت به منذ زمن عبد الناصر مروراً بالسادات ثم مبارك ومرسي وإنتهائاً بالسيسي، كلها لم تنضج وعيه القومَجي الكلاسيكي، ولم تبلور رؤيته الضيقة، فظل يُحَلل ويُفلسف الأمور من وجهة نظر أضيق من خرم الابرة!

فمن قال بأن العبادي يقدم تنازلات! ولماذا لا تعتبر تذليل صعوبات ورفع تجاوزات وحلول مشاكل أوجدها وأفتعلها سَلفه أصلاً! فحينها سيصبح العكس هو الصحيح،وسيكون ماقام به المالكي خلال ثمان سنوات هو ما كاد أن يودي بالبلاد الى حرب أهلية،بدليل إستلام العبادي للبلاد وهي تعاني من أنهيار إقتصادي وأمني يتمثل في خزينة خاوية وعجز ومديونية بالمليارات، وفي جيش منهار وسيطرة لتنظيم إرهابي ومليشيات طائفية على ثلاثة أرباع البلاد. وإذا كان العبادي يفرط بحقوق الشيعة فهل كان ما يفعله المالكي بمصلحتهم وضماناً لهذه الحقوق! وهل مصلحة الشيعة على ضوء هذا الهراء هي في قطع أرزاق الأكراد وفي رمي البراميل المتفجرة على رؤوس السنة! وهل هي بتجويع الاكراد وقتل السنة وهدم بيوتهم! هل بهذه الطريقة تضمن حقوق الشيعة وتتحسن أوضاعهم ويبنى وطنهم ويعمر! ولماذا إذاً لم يحدث ذلك خلال ثمان سنوات من حكم المالكي كانت عجافاً على الشيعة قبل غيرهم! فباستثناءه هو وأقاربه وبطانتهم الفاسدة، وهم ليسوا من الشيعة فقط بل من كل العراقيين، فقد إزداد الشيعة فقراً وإزداد قتلهم وبَقِيت بيوتهم بلا خدمات ومُدُنهم بلا أمن وحياتهم بلا كرامة حالهم حال جميع العراقيين حتى من إنخدعوا منهم بالمالكي لأسباب طائفية وهم طبعاً ليسوا قلة. عموماً قد يكون المالكي ممثلاً لنسبة ليست بالقليلة من شيعة العراق، ولكن ليس كلهم، كما هو حال عدنان الدليمي مثلاً، الذي قد يمثل أيضاً نسبة من سنة العراق، ولكن لا هؤلاء ولا أولئك هُم مَن نُعَول عليهم ونأمل بهم خيراً لرَأب الصَدَع بذهنية الفرد العراقي وتركيبته المجتمعية، بل الأمل هو في مَن يفكرون بمصلحة العراق من وجهة نظر أوسع وأكبر من خرم إبرة الطائفة أو القومية.

المثير في الأمر هو أن الكثير من الصفحات الطائفية والمسمومة التابعة أغلبها للمالكي والشبيهة بسحنته الصفراء تلاقفت المقالة وسارعت لنشرها كوثيقة دامغة من باب"ها شفتو مو كلنالكم"على إعتبار أن هيكل هو(كيسنجر العرب) وكلامه"ما ينزلش الأرض أبداً"، مع أن نفس هذه الصحف ومن يقفون ورائها لطالما غلسوا وغضوا الطرف وتجاهلوا مقالات وكتب عديدة لهيكل ينتقدهم فيها، بل وهاجموه أحيانا بسبب هذه الكتابات وإعتبروه من وعاظ السلاطين ومن أزلام صدام!!

وبالمناسبة قد يحدث ما يتوقعه هيكل لا سمح الله، لكن ذلك لن يعني حينها بأن هيكل عبقري وفهيم وجايب الذيب من ذيلو ويلكفها وهي طايرة، ولن يكون بسبب الدكتور العبادي ولن يعني بأنه كان مخطئاً في ما يفعله وكان عليه أن يتبع طريقة المالكي وأسلوب القذر في التعامل مع الأهل والجيران بطائفية ودونية، بل سيعني حينها أن المشكلة هي في الشعب العراقي وهو وحده السبب في ضياع بلاده وموت أبناءه وأنه فعلاً شعب تنخره الطائفية والعنصرية حتى النخاع ولا أمل في شفاءه وعودته الى الحياة من حالة الغيبوبة عن الحياة والعالم التي يعانيها منذ سنوات وربما منذ عقود!!

&

[email protected]

&