لا بدّ أنّ الكيل قد طفح برئيس الوزراء العراقي حين استعار الوصف الأشهر لصدّام حسين كي يصف به سلفه المالكي في خطابه الأخير يوم السبت الماضي. لا مكان للتراجع ولامجال للترّضيات. لم تكن زلّة لسان عابرة. فحتّى زلّات اللسان تعبّر عن المكنونات. الاوضاع المأساوية بحاجة الى فصاحة أكثر وتشخيص أدّق وفتح لملفّات الفساد المتراكمة، قبيل البدء بالمعالجة والحديث عن الإصلاح. التلميح يفسح المجال للتأويل. رغم أنّ الوصف جاء في سياق عابر للتلميح. فهل قرّر العبادي أخيرا التصويب باتجاه أعتى الرموز واكثرها بشاعة؟. الكلام وحده لا يكفي.
العبادي لا يكتشف أسرار طاحونة الفشل والفساد. فالأمور معروفة& للمراقبين منذ سنوات. ولذلك فإنّ اكتشاف المكتشف في تصريحه العلني، ليس اجتراحا للمعجزات. بل الكشف والإحالة الى قضاء عادل، هما في& صميم واجبه وفي جوهر المطلوب انجازه. ما عدا ذلك، فالكلام والتصريحات والخطابات حتى لو كانت صادقة، فهي مجرّد تعزية ومداراة& لآلام الضحية الموجوعة.
العاقل أصبح في مواجهة صريحة مع الأهوج. لكنّ العقل العاجز بحاجة الى جسم اجتماعي فاعل يعوّض عجزه ويجسّد ارادته. أمّا الجنون، فهو بلا قواعد. قوالب المجنون من صنعه هو، وتصوّراته هي القاعدة الوحيدة. وهو أسير لها. ولا يرى فيها سوى إبداعات خارقة، زورا أو جهلا.
&القائد الضرورة أو مختار العصر أو المرشّح لجائزة نوبل أو الفلتة النادرة من فلتات الزمان. كلّها وغيرها من الصفات المجانية لم تكن فلتات لسان من قبل أتباعه والمستفيدين من حكمه. وحين وصف بها خلال ولايتيه، كانت تحدث في السرّ وفي العلن، أسوأ ما يمكن حدوثه& للعراق. الكثيرون من البسطاء وعامّة الناس، ترحّموا على الديكتاتور الأصلي.
&وفي سنوات حكم المالكي حدثت أكبر عمليات السطو والنهب المنظّم للمال العامّ في التاريخ الحديث.& ولسوء طالعه فقط، لا توجد جائزة نوبل للفشل كي تمنح له دون منازع.
&العبادي يحاول متأخرا أن يرسي بعض القواعد على لعبة منتهكة من كلّ الجهات، وهو بدون خطّة وبدون تخطيط. القواعد السياسية المعمولة بها اقتحمتنا من الخارج منذ وقت طويل. الخارج يقرّر وحده& لما ينبغي أن يكون عليه الداخل. الساحة العراقية مفتوحة وبواباتها مشرّعة على مصراعيها لكلّ من يودّ اللعب والتلاعب واقتراح الألعاب الجديدة.
&عواصم القرار الكبرى لعبت بالمُلك، وتجّار الدين والمذهب والطائفة أدركوا، أنّ لا كتاب جاء ولا قرآن نزل. والمصائر صارت على كفّ العفاريت الروس والأمريكان والإيرانيين وغيرهم.
الذهبّ الرنّان عابر للمذاهب. الأرصدة الخيالية تعمي البصر والبصيرة ببريقها اللامع. لائحة الإدانة تكاد أن تطال الجميع. السابقون واللاحقون. مليارات النفط كانت دون حساب. وجيوب المناضلين قبل أفواههم، كانت جائعة من قرون. واكتشفنا أنّ المظلومية لم تكن سوى ستارا أخلاقيا خادعا ومقبولا للدهماء. سادة القوم عندنا لا يشبعون. وكلّ هذا من فضل ربّي. شعار ديني يعلو مكاتب المنحرفين دينيا ووطنيا وأخلاقيا. ما أسهل تبرير النهب والسرقات بإسم الدين.
لم يكتف الأهوج الضرورة بما ارتكب من حماقات خلال ولايتيه، بل أرادها وربّما مازال& يحلم بها، ولاية ثالثة. لم لا؟. فما دام سروال السلطة فضفاضا لهذه الدرجة. وما دامت الخدعة الكبرى لم تنته بعد. فكلّ شيء عند العراقيين صابون. أليس كذلك؟.
الرفاق في حزب الدعوة حائرون. والعبادي بدوره حائر ومحيّر للكثيرين من العراقيين وغير العراقيين. الشكوى من ميراثه المفخّخ والمثقل بالديون والأزمات، مفهومة. هي حيرة الإرادة العاجزة. هو يريد الإصلاح والتغيير ولكنه لا يستطيع رغم صلاحياته الكثيرة. الخطوط الحمراء لا يمكن تجاوزها. لا هو ولا غيره على كلّ حال. قفص الفئران المربوطة من ذيولها محكم الإغلاق. الإصلاح هو شأن المتضررين أولا وأخيرا.

باريس